تتداول فتوى تقرِّر إمامة رشاد العليمي واعتباره وليَّ أمر المسلمين في بلدنا، وهي – في حقيقتها – فتوى سياسية مغلَّفة بلبوس ديني،
الثلاثاء - 30 ديسمبر 2025 - الساعة 08:55 ص بتوقيت العاصمة عدن
عدن " عدن سيتي " د بسام البرادعي
تتداول فتوى تقرِّر إمامة رشاد العليمي واعتباره وليَّ أمر المسلمين في بلدنا، وهي – في حقيقتها – فتوى سياسية مغلَّفة بلبوس ديني، لا تقوم على تحقيق مناط الإمامة كما قرره فقهاء أهل السنة، ولا تراعي مقاصدها ولا شروطها الواقعية.
فـوليُّ أمر المسلمين ليس لقبًا اعتباريًا، ولا توصيفًا بروتوكوليًا، بل هو من يقوم بأمور الناس، ويحرس الدين، ويؤمِّن الثغور والجبهات، ويذبّ عن الجماعة، ويملك القدرة الفعلية على تنفيذ الأحكام، وردع المعتدي، وحفظ النظام العام.
وعليه فإن السؤال الجوهري الذي لا يجوز القفز عليه هو:
من الذي يحقق هذه المعاني على أرض الواقع؟
أرشاد العليمي، أم عيدروس الزبيدي؟
ومما يزيد المسألة وضوحًا: التفريق اللازم بين نوعين من الشرعية، كثيرًا ما يخلط بينهما عمدًا أو جهلًا:
الشرعية الدستورية الشكلية، والشرعية الشرعية الواقعية.
فالشرعية الدستورية تقوم على نصوص قانونية، أو توافقات سياسية، أو اعترافات خارجية، وهي – من حيث الأصل – شرعية إجرائية لا تكفي وحدها في ميزان الفقه السياسي السني لإثبات الولاية العامة، ما لم تُترجم إلى سلطانٍ نافذ وقدرةٍ فعلية على القيام بمقاصد الإمامة.
أما الشرعية الشرعية الواقعية، فهي التي اعتبرها فقهاء أهل السنة عند تعارض الادعاءات، وتقوم على بسط اليد، والتمكّن، والقدرة على تنفيذ الأحكام، وتحقيق مقاصد الاجتماع، ودرء الفتنة وسفك الدماء.
ولهذا لم يجعل الفقه السني مناط الولاية مجرد التسمية أو الاعتراف الدولي، بل القدرة والمآل؛ لأن الإمامة وضعت لتحصيل المصالح ودفع المفاسد، لا لتعليق الناس على شرعية ورقية لا وجود لها في الواقع.
فهذه الشرعية لا تنتج الًا الفوضى، و تستعمل ذريعة لإشعال الحروب، فهي شرعية ساقطة اعتبارًا، وإن استوفت أوراقها شكلًا.
ثم إن أصل الشرعية في الفقه السياسي السني لا ينفك عن رضا الأمة واختيارها؛ إذ قرر الفقهاء أن الأمة هي مصدر الولاية التنفيذية، ولها حق التعيين والعزل، لأن المقصود من الإمامة هو القيام بمصالحها، لا مجرد الادعاء بتمثيلها.
وحتى لو سلّمنا – جدلًا – بدعوى ولاية رشاد العليمي، فإن مذهب أهل السنة والجماعة لا يكتفي بالدعوى الشكلية، بل يقرّر أن المتغلب الذي استقرت له السلطة، وبسط يده على الأرض، ونفذ أمره، تعيّنت ولايته شرعًا؛ دفعًا للفوضى، وحقنًا للدماء، وتحقيقًا لمقاصد الاجتماع.
قال الإمام أحمد رحمه الله:
�ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمّي أمير المؤمنين؛ فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا�
أبو يعلى، الأحكام السلطانية، (ص٢٣).
وقال الحافظ ابن حجر:
�وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء�
فتح الباري، ( ٧/١٣).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
�وقلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد من الشر أعظم مما تولد من الخير�
(منهاج السنة، (٤/ ٥٢٧- ٥٢٨).
وذلك لأن الولاية ليست خطابًا ولا بيانًا، بل قوة نافذة؛ فإذا حكم القاضي نُفِّذ حكمه، وإذا أُقيم الحد أُقيم، وإذا هوجم البلد دفع العدو. وهذه المعاني لا تتحقق إلا بيدٍ قابضة وسلطة رادعة، وهي منعدمة فيمن يتنقل من فندق إلى آخر ولا يملك حماية نفسه، فضلًا عن حماية الناس.
وأنبه هنا: انّ فقه المتغلب عند أهل السنة ليس مطلقًا؛ فلا تُثبت الإمامة لمن استقر له السلطان إذا كان مشروعه عقديًا طائفيًا يهدم أصل الجماعة، لأن الشرعية تقاس بحفظ الدين ومقاصده لا بمجرد القوة، لأن الشريعة لا تعترف بشرعية تناقض مقاصدها الكلية.
وبعد هذا البيان يتبيّن أن من أفتى بهذه الفتوى غاب عنه مقصود الإمامة ومآلات تنزيلها، فكان كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا.
فإن ما يقتضيه:
التفويض الشعبي
والمصلحة العامة في استقرار البلاد
وأصل سد ذرائع الفساد العظيم
واعتبار المآلات المترتبة على فرض ولاية شكلية لا سلطان لها
كلُّ ذلك يقود إلى نتيجة واحدة:
أن فرض وليٍّ لا يملك قوة ولا تمكّنًا لا ينتج إلا حربًا لا تنطفئ، ودمارًا لا يحتمل، وسفك دماء لا يزيد الناس إلا تمسكًا بإرادتهم.
وعليه، فليست هذه الوجهة من الدين في شيء، ولا من الحكمة، ولا من السياسة الرشيدة، بل هي مقامرة ومغامرة بمصير بلد، تحت غطاء فتوى أُخرجت عن سياقها، ونزعت من مقاصدها، واستعملت في غير محلها.
نسأل الله أن يحفظ بلادنا من الفتن، ومن القرارات غير المحسوبة، وأن يلهم أهل الرأي والفتوى رشدهم.