مدينة تُطهى على نار الحنين

الخميس - 04 ديسمبر 2025 - الساعة 11:20 م بتوقيت العاصمة عدن

تقرير "عدن سيتي" ابتسام خنافر




منذ سنوات، لم أكن أتخيّل أن مدينة في أقصى شمال أميركا يمكن أن تشبه بلادنا أكثر من بلادنا نفسها
ديربورن فعلت ذلك. أعادت ترتيب قلوب المهاجرين على هيئة أطباق، ورصّت الذكريات فوق طاولات صغيرة تنتظر أن يلمسها من اشتاق.
في مدينتنا، الطعام ليس تفصيلاً، بل شهادة حياة.
تمشي في الشارع فلا تحتاج إلى خريطة؛ يكفي
أن تقودك رائحة المكان.
رائحة الكباب تتسلل مثل نسمة من بغداد، والمنسف حمل معه دقات طبلة من عمّان، والمناقيش تروي صباحات بيروت، والحنيذ يعبق في المكان بنكهة اليمن لسعيد، والشاورما تحولت إلى عنوان ثقافي .. بل حتى
سياسي.
في ديربورن، لا تبدأ الحكاية من المنازل العامرة بأهلها ولا من الشوارع المزدحمة، بل من رائحة خبز بخرج من فرن صغير على زاوية الطريق. كل مطعم هنا نافذة مفتوحة على ذاكرة بعيدة، وكل لقمة محاولة لإنقاذ وطن من الاندثار في غياهب النسيان.
تسير على وورن أفنيو، فتشعر أن خطواتك ليست وحدها هي التي تقودك، بل شيء من ذاكرة أجيال.
اللافتات العربية المعلّقة فوق المحال ليست مجرد أسماء، بل رسائل تقول: �اقترب... لن يضيع منك الوطن�.
منذ أكثر من قرن وصلت موجات الهجرة العربية لى هذه المدينة الصغيرة في ولاية ميشيغن. جاء الأوائل من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق واليمن، يحملون في حقائبهم القليل من الملابس والكثير من الأحلام.
عملوا في مصانع فورد القريبة ومحطات الوقود ومتاجر لبقالة، ثم افتتحوا محالهم الصغيرة لبيع ما يعرفونه جيداً: الطعام.
مع مرور الوقت، تحوّلت ديربورن إلى أكبر تجمع عربي في الولايات المتحدة؛ عشرات الآلاف من العرب بعيشون هنا اليوم، يصنعون نسيجا حيا يملأ الشوارع بالروائح واللغات والذكريات.
في مطعم صغير على وورن أفنيو، يقف شاب يمني خلف الفرن، يخبز المناقيش بيدين متعبتين لكنه يبتسم. حين تسأله عن السبب، يقول: �أبي كان يحلم أن يفتح مطعما هنا... وأنا أحقق حلمه�.
وفي مطعم آخر، شابة فلسطينية تضع لمسات حديثة على وصفات جدتها، تقدم الكبة في أطباق أنيقة، وتضيف صلصات جديدة لتجذب الجيل الأميركي. تقول بابتسامة: ((جدتي كانت تطبخ بحب... وأنا أحاول أن أطبخ بنفس الحب، لكن بطريقة يفهمها الجيل الجديد�.
هكذا، تتحول المطاعم إلى مسرح صغير تتقاطع فيه الأحلام القديمة مع الطموحات الحديثة.
لكن ليست كل الروائح تشبه الحنين. أحياناً تستقبلك رائحة زيتٍ محترق أو بخارٍ ثقيل، ومع ذلك يجلس لناس. لأن الحنين أقوى من أي رائحة عابرة. طفل يشدّ يد أمه ويهمس: �ماما ... ريحة المكان مش طيبة�. فتربّت على كتفه وتقول بابتسامة متعبة: �اصبر يا روحي�.
ختبئ الوطن خلف ابتسامة، كما يختبئ خلف
قمة خبز يابس لكنها مشبعة بالذاكرة.
على ميشيغن أفنيو في غرب المدينة، المشهد مختلف تليلاً. هنا المطاعم أكثر جرأة، بديكورات حديثة وأضواء ساطعة، تحاول أن تدمج الهوية العربية بالأسلوب الأميركي لعصري. الزبائن يلتقطون صوراً قبل أن يلتقطوا اللقمة، وكأن الذكريات يجب أن تنشر قبل أن تعاش.
بعض المطاعم يقدّم الفلافل في سندويشات �راب)� أميركية، أو يضع الحمص في أطباق مزينة بألوان حديثة نها محاولة لإقناع الجيل الجديد أن الهوية يمكن أن نتجدد، وأن الطعام ليس فقط حنينا، بل أيضا مستقبلا هنا يظهر الفرق بين الأجيال.
لجيل الأول من المهاجرين يرى المطاعم كوسيلة لبقاء على قيد الهوية، كجدار يحميهم من الذوبان في مجتمع جديد. كانوا يفتحون المطاعم ليطبخوا كما كانوا بطبخون في قراهم، بنفس الأدوات والوصفات، وكأنهم بكتبون على الطاولة عبارة: �نحن هنا... ولن ننسى�.
أما الجيل الثاني والثالث، فيرون المطاعم كوسيلة لتجديد والاندماج. يضيفون لمسات أميركية، يبتكرون وصفات جديدة، ويحوّلون المطعم إلى مساحة لقاء بين لقافتين. بالنسبة لهم، الهوية ليست فقط ما ورثوه، وإنما أيضاً ما يصنعونه اليوم.
في مطاعم أخرى، الضيافة تسبق الطعام. هناك، لطاهي يهمس للشاب الذي يساعده: (�النار هون بتسوّي رجال قبل ما تطبخ لحمة�. وفي الخارج، يجلس أميركي أشقر يتذوّق طبقاً عربياً لأول مرة، فيقول بدهشة:
�واو�. كلمة واحدة -أو حتى شبه كلمة- تكفي. لأن الطبق هنا ليس مجرد وصفة، بل شهادة للتاريخ.
ومهما حاولت المطاعم أن تشبه الوطن، تبقى لقمة لأم عصيّة على التقليد. تلك اليد التي تعرف مقدار الملح بطول السنين، وتضيف البهار بقدر الحب، وتطهّي الطعام بدعاءٍ لا يُقال. هناك، كنّا نأكل لنطمئن، وهنا نأكل لنشبع في كل طبق نشعر أن شيئاً ناقصاً... ليس النكهة ولا الوصفة، بل الصوت الذي يقول: ((صحتين يا روحي�.
هذا الصوت تحديداً لا يوجد في قائمة أي مطعم ومع كاميرات الهواتف، يصبح الطعام عرضاً مؤقتاً.
للقمة تنتظر الصورة قبل أن تنتظر الفم، فيموت الطبق مرتين: مرة حين يبرد، ومرة حين يفقد روحه خلف لفلاتر. لكن في زاوية هادئة، تنقذ مكالمة فيديو بين أم وابنتها البعيدة، اليوم كله. تقول الأم: �شو عم تاكلي ماما؟� فترد الابنة: �صفيحة بعلبكية... مثل يلي كنتِ نعمليلنا ياها� فتبتسم الأم وتقول: �طمنيني... طيبة؟� نتجيب: �طيبة... بس مش متل صفيحتك�. وتسقط للقمة من الشاشة إلى القلب مباشرة.
في ديربورن، الطعام ليس مجرد تجارة، بل اقتصاد كامل. آلاف الوظائف خرجت من قدور لا تشتكي التعب.
مناك مطاعم صغيرة يديرها أفراد العائلة، حيث يعمل الأب في المطبخ، والأم في استقبال الزبائن، والأبناء في خدمة الطاولات.
وهناك مطاعم كبيرة تحوّلت إلى علامات تجارية معروفة، تصدّر منتجاتها إلى ولايات أخرى. كل ذلك يجعل من الطعام العربي في ديربورن ليس فقط وسيلة لمعيش، بل وسيلة للحفاظ على الهوية، ولإثبات أن العرب هنا ليسوا ضيوفاً، بل صُنّاع حياة ونكهة وحضور.
المطاعم أصبحت أيضا أماكن للتلاقي الثقافي، حيث بجلس العربي بجانب الأميركي، ويتبادلان القصص نوق طبق مشترك. إنها مساحات صغيرة للاندماج، حيث الطعام يفتح أبواب الحوار أكثر مما تفتحها الكلمات.
ومع ذلك، لا يخلو المشهد من تحديات. الأسعار ترتفع أحياناً بلا مبرر، والخدمة قد تكون باردة، والفوضى في التنظيف تسقط الهيبة. فالهوية إن لم تتحوّل إلى ضيافة، تبقى ديكوراً لمجرّد التقاط الصور.
لنجاح بلا روح إفلاس طويل بطعم فاخر. لكن رغم ذلك، تبقى الرائحة الأولى أقوى من كل شيء. لأن لأوطان طريقة عجيبة في الوصول... ولو عبر مجرى الأنف.
في المساء، حين تغلق بعض المطاعم أبوابها، يبقى الشارع حياً. تسمع أصواتاً بالعربية والإنكليزية تتداخل، نرى شباباً يضحكون، وعائلات تحمل أكياساً مليئة بالخبز واللحوم والحلويات. تشعر أن المدينة كلها تتحوّل إلى مائدة كبيرة، يجلس حولها الجميع، مهاجرون وأميركيون، كبار وصغار، وكل واحد يجد في اللقمة سيئاً من نفسه
مكذا، يخرج الناس من مطاعم ديربورن وفي عيونهم بقايا ضوء، وفي قلوبهم قطعة وطن صغيرة نجت من لغربة. لأن العرب هنا لا يبحثون فقط عن مكان يأكلون فيه، بل عن مكان يحبّهم بقدر ما يحبّون منازلهم لأولى. نأكل كي لا ننسى، ونطهو كي لا نموت.
وفي ديربورن، كل لقمة تقول للمهاجر: (�طمّن
قلبك.. الحنين هنا لا يُطفأ�.



متعلقات