طارق صالح.. بندقية بلا بوصلة ومشروع بلا ملامح

الأحد - 29 يونيو 2025 - الساعة 10:31 م بتوقيت العاصمة عدن

تقرير "عدن سيتي" د.جلال المحمدي





في المشهد اليمني المتشابك، لا يمثل طارق صالح قائدًا عاديًا بقدر ما يجسد تناقضات مرحلة، وصورة مركبة لوريث بلا ملامح واضحة. خرج من عباءة عمه المقتول، لا لينتقم له، ولا ليكمل مشروعه، بل ليؤسس كيانًا جديدًا تتداخل فيه المصلحة بالعائلة، والغموض بالاستحقاق، والصمت بالتبعية. لا هو من رجال الدولة، ولا هو من الثوار، ولا هو من صناع السلام، بل هو حالة عالقة في هوامش كل هذه العناوين، يتحرك دون مشروع، ويتكلم دون موقف، ويُدعم دون مساءلة.

من يتتبع خطابه، يجد نفسه أمام رجل يكثر من الحديث عن "الجمهورية"، لكنه لا يتعامل معها كقضية، بل كوسيلة. يُكثر من ترديدها، لا ليُحييها، بل ليُلبس بها مشروعه العسكري غطاءً وطنيًا زائفًا. رايته الجمهورية ترفرف بلا مضمون، لأنها لا تُغطي وطنًا، بل تُخفي مشروعًا مفصولًا عن الناس وهمومهم.

أما على الأرض، فكيانه يعمل خارج هيكل الدولة، دون صفة رسمية أو تبعية واضحة. لا أحد يعلم تحت أي وزارة تنضوي قواته، ولا بأي صفة قانونية يحرّك رجاله في الميدان، ولا لأي جهة سيادية يرفع تقاريره. كيان عسكري مستقل في كل شيء، إلا في قراره، فهو مرتهن -شاء أم أبى- لمصدر تمويله وداعميه.

وهذا التعتيم المؤسسي لا يعكس فقط غموض موقعه، بل يفضح قابلية الدولة للتآكل من الداخل حين يُمنح السلاح والقرار العسكري خارج التراتبية، دون مساءلة أو تبعية قانونية.

وليس سرًّا أن ما بُذل من أموال لتأسيس قوته، وشراء الولاءات، وتكثيف حضوره الإعلامي، لم يكن كرمًا عابرًا من الممولين. فلا أحد يمنح السلاح والمال والنفوذ لشخص، ليظل محايدًا في لحظة الحسم.

مشروعه ليس أكثر من مخزون احتياطي لمعركة قادمة، وورقة تُستخدم حين تنضج شروطها.. وكل ما في سلوكه السياسي يؤكد أنه صُنع ليخدم لا ليقود، وليُوظَّف لا ليُقرِّر، وما بين يديه من قوة لا تعني السيطرة، بل تكشف عن سلاح مستعار لا يُطلق إلا بأمر من غيره.

ولم يكن في يومٍ من الأيام خصمًا للحوثيين، كما يحاول البعض أن يروّج، بل كان في صفهم يوم كانت بندقيتهم تبحث عن غطاء، وخرائطهم تبحث عمّن يفتح لها الطريق. درّب وقاتل وحاصر، وأصابت رصاصاته من كانوا يومًا شركاءه في الدولة والجمهورية.

لم يصطدم بهم رفضًا لانقلابهم على الدولة، ولا رفضًا لمشروعهم الكهنوتي، بل حين هاجموا عمه وقتلوه في صراع على النفوذ داخل التحالف ذاته، خصومته معهم لم تكن مبدئية بل شخصية، وهذا ما يجعل كل دعاوى جمهوريته مثقلة بالريبة، سامح اليمنيون كثيرًا حين تجاوزوا تلك الصفحة السوداء، لا ضعفًا، بل سموًّا.

لكن الخيانة لا تُمحى بالتقادم، ولا تبيضها المواقف المتأخرة. نعم، نحن نترفّع عن الأحقاد، ونصون أخلاق الخصومة، ولكننا لا نمسح الدم بالتصفيق، ولا نغلق ملفات الخيانة قبل أن تُفتح دفاتر الاعتراف.. فالتاريخ لا ينسى من تخلّى، ولا يكتبه من لا يعترف.

فلا يظنّن أنه سيشتري مواقف الناس بأموال السياسة، ولا يتذاكى بالاستعانة بجوقة الدواشين من حوله ليطمسوا خطيئته.. فالمجد لا يُصنع بالمؤثرات الصوتية، ولا تُمحى الخيانة بخطاب دعائي منمق. إن سكت الضمير، فالتاريخ لا يسكت.

ولئن كانت الجغرافيا قد منحته قاعدة صلبة في الساحل الغربي، فإن هذه القاعدة لم تبنها انتصارات وطنية، بل صفقات أمنية واقتصادية وقبلية أُبرمت على الأرض، وموّلت بسخاء لتشكيل كيان عسكري موازٍ، يعمل بمعزل عن القرار الجمهوري، ويُعدّ للاستخدام حين تُقرّر المعركة الكبرى.

انتقاله من ضابط في الدائرة الأمنية الخاصة بالرئيس السابق، ومن قلب شبكة النفوذ العسكري المرتبطة بالحرس الجمهوري، إلى قائد قوة ميدانية غير رسمية تعمل خارج هيكل الدولة، لم يكن تطورًا طبيعيًا، بل تحوّلًا مموّلًا، أتاح له جمع المقاتلين، وشراء الولاءات، وتشكيل حزام نفوذ شخصي يبدو عسكريًا، لكنه في جوهره سياسي موجه.

وفي الوقت الذي تمرّ فيه اليمن بأكثر لحظاتها مصيرية، يرفض طارق أن يُعرّف نفسه سياسيًا بوضوح. لا يعادي الحوثي بشكل صريح رغم أن دمه العائلي سُفك على أيديهم، ولا ينتمي فعليًا إلى الشرعية رغم ما يدّعيه.. يتموضع في منطقة رمادية، يجيد فيها الصمت أكثر من الفعل، والانتظار أكثر من المبادرة. ومع كل منعطف، يبدو كمن يراقب لا ليشارك، بل ليعرف متى يخرج من الظل، وبأي شروط. ويكاد حضوره الإعلامي يسبق فعله الميداني، في عملية ترويج متعمدة لصناعة بطل من ورق، بوسائل لا تختلف كثيرًا عن تلك التي دُبّجت بها صورة عمّه لعقود.

وفي كل هذا، يغيب صوته حين يُذبح المواطن جوعًا، أو يُقمع حريةً، أو يُغتال حلمًا. لم نسمع له كلمة في وجه انتهاك، ولا موقفًا من قضية وطنية حارقة، وكأن الميدان الذي يملكه لا يسمع فيه إلا صدى صمته. وإذا جُرّد من السلاح والدعم، فهل يبقى له في الذاكرة الشعبية ما يبرر حضوره؟ أم أن شرعيته تنهار مع توقف التمويل، لأنه لم يُبنَ على ثقة الناس بل على صمتهم؟

طارق صالح، في جوهره، ليس قائدًا لمشروع وطني، بل امتدادٌ مشوّه لحقبة انتهت دون أن تُحاسب. لم يعتذر عن الماضي، ولم يقدم بديلاً للمستقبل.. يحتمي بإرثٍ مشبوهٍ، ويغذيه تمويلٌ مريب، ويخفيه خطابٌ مُنمق بلا مضمون. هو ابن النظام السابق، لكنه لم يتطهر من خطاياه، بل حافظ عليها في ذاكرته وتكتيكاته، واكتفى بتغيير الزي، لا البوصلة.

ومن هنا، فإن صمته لا يُقرأ كحكمة، بل كهروب، وغموضه لا يُفهم كدهاء، بل كإفلاس سياسي. مشروعه ليس غائبًا فحسب، بل مفقودًا من الأصل، ووجوده السياسي مجرد رهان مؤجل على معركة لم يقررها هو، ولن يخوضها بإرادة مستقلة.

وطالما ظل سؤال "من هو طارق صالح حقًا؟" بلا إجابة، ستظل كل وعوده مجرد صدى لمصالح آخرين، لا صوتًا لوطن يبحث عن رجاله.

متعلقات