من لايشكُر الناس لايشكُر الله...
الإثنين - 23 يونيو 2025 - الساعة 03:43 م بتوقيت العاصمة عدن
عدن " عدن سيتي " د يحيى الريوي
من لايشكُر الناس لايشكُر الله...
الشخصية الوطنية المعروفة، قاسم عبد الرب صالح العفيف (أبو مهيل)، لم يكن مجرد طياراً ماهراً وجنرالاً وقائداً عسكرياً هماماً وصل إلى قيادة القوات الجوية والدفاع الجوي، وتولى رئاسة هيئة الأركان العامة بالوكالة بعد تخرجه من أكاديمية فرونزه للقيادة والأركان (القوات المشتركة) في الاتحاد السوفييتي؛ ولا كان فقط برلمانياً قديراً، أو سفيراً بارزاً نال أرفع درجات التكريم الدبلوماسي التي لم يحصل عليها من قبله سوى الرؤساء سالمين، وعبد الفتاح، وعلي ناصر. ولم يكن الرجل الذي ترأس أعلى الهيئات الرقابية الحزبية فحسب.
بل — والشيء الأهم الذي أتناوله في هذا المنشور —أنه كان في جوهره رجلاً وإنساناً شهماً، شجاعاً، نبيلاً، لا يسمح بأن يُظلَم أحد وهو يعلم، ولا يتورع مطلقاً عن مساعدة ومناصرة المظلوم بكافة السبل.
أود أن أسجل هذا المنشور الذي يروي ذكريات أولى محطات الظلم والعقاب التعسفي الذي لحق بي في بداية حياتي الوظيفية، والذي لم يكن نتيجة تقصير أو إهمال أو مخالفة للقوانين والأنظمة، بل بسبب آرائي الأكاديمية والمهنية فقط، والتي لم تُرضِ المسؤولين عني وتحديدًا، عندما شغلت منصب المدير العام لأول مركز للتعليم على استخدام وبرمجة الحاسوب في العاصمة الحبيبة عدن، والذي تم افتتاحه عام 1988م.
وللتذكير، فإن ذلك المركز تم افتتاحه بمساعدة دولة بلغاريا، التي قامت بإهداء تجهيزاته ومعداته من أجهزة حاسوب وطابعات ومنظمات كهربائية وغيرها. وقد نصّت الاتفاقية الخاصة بإهداء وتشغيل ذلك المركز على أن تلتزم الجهات البلغارية بإرسال خبير بلغاري الى العاصمة عدن للمساعدة في الفترة التأسيسية والتشغيلية للمركز، ولمدة ستة أشهر مبدئيًا قابلة للتجديد، على أن يتحمل الجانب اليمني، والمتمثل في اتحاد الشباب، تأمين ما يلي:
1. راتب شهري للخبير بالدولار الأمريكي.
2. شقة سكنية مؤثثة ومجهزة.
3. وسيلة مواصلات شخصية للخبير.
4. تذاكر سفر.
وفعلاً، تم افتتاح المركز وانتظم نشاطه، وبعد مرور فترة الستة الأشهر من وجود الخبير البلغاري، تم استدعائي من قِبل قيادة الاتحاد لمعرفة رأيي بشأن تجديد فترة عمل الخبير لمدة ستة أشهر إضافية، أو إنهاء التعاقد معه، ومدى قدرتي على تولّي مهامه بما يضمن استمرار العمل في المركز بأفضل شكل ممكن.
وقد كان رأيي واضحًا، إذ أبديت استعدادي الشخصي التام لإدارة المركز والقيام بأعمال التدريب، مؤكّدًا عدم الحاجة إلى تجديد عقد الخبير البلغاري.
وبالفعل، تم التواصل مع الجهات البلغارية المعنية، وكذلك مع الخبير البلغاري، وإشعارهم بذلك القرار. كما أُقيم له حفل تكريمي وتوديعي رمزي، ثم غادر العاصمة عدن عائدًا إلى بلغاريا.
واستمر سير العمل في المركز بشكل ممتاز، وكان الإقبال يتزايد باستمرار على الالتحاق بالدورات التدريبية التي ينظمها المركز. ثم شرعنا، وبالتنسيق مع تلفزيون عدن والصحافة، في تنظيم حملة توعوية لتعريف المجتمع بالكمبيوتر وبرمجته، من خلال إعداد وتقديم أول سلسلة حلقات تلفزيونية توعوية وتعليمية حول الكمبيوتر، قمت بإعدادها وتقديمها شخصيًا. كما خصصت صحيفة "14 أكتوبر" اليومية صفحاتها لنشر سلسلة صحفية مماثلة من إعدادي.
وتقديرًا لتلك الجهود التي بذلناها، وافق معالي الوزير المحترم المهندس عبدالقوي مثنى هادي رحمه الله، وزير الإسكان آنذاك، على السماح لي بالسكن في الشقة التي كان يقطن فيها الخبير البلغاري، والواقعة في حي الأحمدي- ساحل أبين- خورمكسر، وهو حي مكوّن من 22 عمارة سكنية تم بناؤها خصيصًا لتسكين الخبراء الأجانب الذين كانوا يعملون في مختلف الوزارات في دولة الجنوب قبل الوحدة.
وبالفعل، انتقلتُ للسكن في الشقة، وأكملت نصف ديني بالزواج، والذي صادف - وللأسف الشديد - يوم احتلال العراق للكويت، في 2 أغسطس 1990م.
وفي شهر العسل، أقام اتحاد الشباب حفلًا خطابيًا وفنيًا كبيرًا بمناسبة تأسيس المركز، واحتفاءً بالدور التنويري والتأهيلي الذي كان يضطلع به، والنجاحات التي تحققت فيه. وكان من المقرر أن ألقي كلمة في ذلك الحفل بصفتي المدير العام للمركز.
وقد حرصت في خطابي على تضمين رؤية مستقبلية لوضعية المركز، خاصةً في ظل المرحلة الانتقالية التي دخلتها البلاد بعد 22 مايو 1990م، والتغييرات في وضعية ودور المنظمات الجماهيرية، ومن ضمنها اتحاد الشباب الذي كان المركز يتبعه, كما تناولتُ في الكلمة ضرورة الانتباه لظروف المنافسة التي كانت تتمثل في فتح المجال أمام القطاع الخاص للاستثمار في مجالات التدريب والتأهيل، وإنشاء المراكز والمعاهد التقنية الخاصة.
أما النقطة الرئيسية في خطابي، فقد كانت اقتراحي بضرورة التوجّه نحو التنسيق مع رئاسة جامعة عدن، بهدف استيعاب المركز ضمن الهيكلية المؤسسية للجامعة، لما في ذلك من تناغم واضح بين مهام المركز ونشاطه، ومهام الجامعة ووظيفتها الأكاديمية.
المهم، بمجرد وصول محتوى خطابي إلى علم قيادة الاتحاد، توالت وبشكل سريع ودراماتيكي ردود الأفعال التالية:
• استياء بالغ من قيادة الاتحاد تجاه خطابي، خصوصًا ما ورد فيه من مقترح إلحاق المركز بجامعة عدن.
• صدور قرار بإعفائي من منصبي كمدير عام وكمدرب في المركز، وإشعاري بتسليم مفاتيح المركز والقيام بعملية التسليم والاستلام مع من سيخلفني.
• قرار بسحب سيارة "لادا" من عهدتي الشخصية.
• قرار بسحب كامل أثاث الشقة التي كنت أسكن فيها، بما في ذلك جهاز التكييف من نوع National الذي تم شراؤه سابقًا للخبير البلغاري.
• قرار بإخلائي الشقة السكنية وتسليمها للجنة الرقابة التابعة للاتحاد خلال أسبوع.
وهكذا، تحوّل شهر العسل إلى شهر طوارئ وإجتماعات ومشاورات، سعينا فيها جاهدين للتعامل مع تلك القرارات العقابية القاسية، التي جاءت كرد فعل على آرائي وقراءتي للمستقبل، وهي لم تكن بطبيعة الحال أراء مُلزِمة بل مجرد مقترحات وإجتهادات ليس إلا.
قمت بتنفيذ جميع القرارات العقابية، باستثناء تسليم الشقة، وذلك بعد التشاور مع والدي العزيز، وإخواني، وعدد من أقربائي، حيث انتقلنا للإقامة فيها وشكلنا ما يشبه "فريق أزمة وطوارئ". حاولنا بشتى الطرق التواصل مع قيادة الاتحاد، لتوضيح ماجرى، ومحاولة ثنيهم عن تنفيذ القرار الخاص بسحب الشقة، لكننا وُوجهنا بإصرار غريب على تنفيذه.
وبعد عدة أيام مليئة بالقلق والتوتر، لاحظتُ انفراج أسارير وجه والدي العزيز الله يمتعه بالصحة والعافية ويطول بعمره بعد إنهائه مكالمة هاتفية مع أحد رفاقه المقربين، الذي كان يحدثنا عنه دائمًا بكل ودّ وإعجاب وتقدير. لم يكن ذلك الشخص سوى الشخصية الوطنية المعروفة، قاسم عبدالرب السلفي، رئيس لجنة الرقابة الحزبية العليا في الحزب الاشتراكي اليمني آنذاك.
وبالفعل، وبعد يومين، حمل لنا "أبو مهيل" البشائر بانفراج الأزمة، بعد تدخله شخصياً ونجاحه في إحتواء تلك القرارات العقابية الظالمة، وخاصة القرار الأشد قسوة، وهو سحب الشقة السكنية.
لقد أنقذنا ذلك الرجل الشهم من دوامة قرارات مجحفة، وأعاد إلينا البهجة والطمأنينة، في موقف إنساني وأخلاقي نادر، لا يُقدم عليه إلا العظماء من أمثاله....
أرفع له القبعة إحترامًا وتقديرًا لذلك الموقف النبيل والرجولي، وسأظل ممتنًا له ما حييت، محتفظًا في قلبي بجميل صنعه، ودعائي له بكل الخير.وبأن يمتعه الله سبحانه وتعالى بالصحة والعافية والعمر المديد...
ومن لايشكر الناس لا يشكر الله...