الأحد-28 ديسمبر - 12:51 ص-مدينة عدن

المنفّذ أُعدم… فمن قتل جار الله عمر فعليًا؟

السبت - 27 ديسمبر 2025 - الساعة 10:44 م بتوقيت العاصمة عدن

تقرير "عدن سيتي" صبري عبيد


في الثامن والعشرين من ديسمبر، تعود ذكرى اغتيال جار الله عمر لا بوصفها حادثة من الماضي، بل كجريمة سياسية ما تزال مفتوحة في الوعي اليمني، جريمة لم تُكشف حقيقتها كاملة، ولم تُحاسَب أطرافها الفعلية، وظلّت شاهدة على مرحلة قررت فيها منظومة كاملة أن الكلمة أخطر من البندقية، وأن الحوار تهديد يجب إسكاتُه بالرصاص.
قُتل جار الله عمر في وضح النهار، داخل قاعة مؤتمر سياسي، أمام مئات الحاضرين، بعد سنوات من التهديدات العلنية والمبطنة. لم يكن الاغتيال فعلًا معزولًا أو اندفاعًا فرديًا، بل نتيجة طبيعية لمسار طويل من التحريض والتكفير والتواطؤ السياسي والأمني. قُتل لأنه أصر على أن اليمن لا يُدار بالفتوى، ولا يُحكم بالخوف، ولا يُبنى على الإقصاء، ولأنه مثّل مشروع دولة مدنية في لحظة كانت تُعاد فيها صياغة الدولة كغنيمة، والدين كسلاح، والمعارضة كجريمة.
القاتل الذي نُفّذ فيه حكم الإعدام لاحقًا لم يُخفِ قناعته، ولم يُبدِ ندمًا، وصرّح علنًا أنه ارتكب الجريمة باعتبارها “جهادًا فرديًا” ضد خصم سياسي. الأخطر من الرصاصة نفسها هو البيئة التي أنتجتها: خطاب تكفيري صُنع على المنابر، ورُسّخ في مؤسسات تعليمية ودعوية، وغُضّ الطرف عنه أمنيًا، ثم استُخدم عند الحاجة لتصفية صوت وطني مزعج. القاتل كان معروف النشاط، ولم يكن مجهولًا للأجهزة، ومع ذلك تُرك حتى نفّذ الجريمة، ثم أُغلق الملف عنده وحده.
العدالة التي توقفت عند إعدام المنفّذ لم تكن عدالة مكتملة، بل كانت إجهاضًا للحقيقة. فالجريمة لم تكن فردية، ولم تولد في لحظة، ولم تُنفّذ بمعزل عن سياق سياسي وأمني وديني خانق. أسماء وردت في التحقيقات، مطالبات قانونية قُدمت، وأسئلة طُرحت علنًا، لكن الدولة اختارت الصمت، واختارت أن لا ترى ما كان واضحًا، وأن لا تسمع ما قيل على الملأ. حين تُغلق الملفات قبل أن تصل إلى مراكز النفوذ، يتحول الحكم القضائي إلى إجراء شكلي، وتصبح العدالة واجهة لا أكثر.
جار الله عمر لم يكن سياسيًا عابرًا. كان رجل حوار في زمن السلاح، ورجل دولة في زمن المليشيا، ورجل فكرة في زمن التكفير. جمع المختلفين، وواجه الاستبداد، ورفض تحويل الدين إلى أداة قتل، ودافع عن وحدة قائمة على الشراكة لا الغلبة. ولهذا كان خطرًا على منظومات رأت في الحوار تهديدًا مباشرًا لمصالحها، وفي العقل عدوًا يجب التخلص منه.
بعد ثلاثة وعشرين عامًا، يدفع اليمن ثمن تلك الجريمة مضاعفًا. فحين لا تُحاسَب منظومات التحريض، تتكاثر. وحين لا يُكشف القتلة الحقيقيون، يتحول الاغتيال إلى أداة طبيعية في الصراع السياسي. ما يعيشه اليمن اليوم من عنف وفوضى ليس منفصلًا عن لحظة اغتيال جار الله عمر، بل هو امتداد مباشر لها، ونتيجة لعدالة مبتورة، وحقيقة مؤجلة.
استعادة هذه القضية اليوم ليست نبشًا للماضي، بل مواجهة للحاضر. لأن الدول التي لا تجرؤ على فتح ملفات اغتيالاتها السياسية محكوم عليها بتكرارها، ولأن الرصاصة التي قتلت جار الله عمر لم تُغلق فمه وحده، بل فتحت بابًا طويلًا للدم ما زال اليمن يسير فيه حتى الآن.
اغتالوه لأنهم خافوا من فكره،
وبقي لأن الفكر لا يُعدم.
إعداد: صبري عبيد

متعلقات