هيئة الإفتاء الجنوبية… إسقاط آخر سلاح في حرب التكفير ضد الجنوب

الأربعاء - 17 ديسمبر 2025 - الساعة 10:45 م بتوقيت العاصمة عدن

تقرير "عدن سيتي" صبري عبيد



في لحظة مفصلية من تاريخ الجنوب، يبرز تأسيس هيئة الإفتاء الجنوبية كخطوة حاسمة تعكس قدرة القيادة الجنوبية على حماية شعبها ومكتسباته من أي استغلال سياسي أو ديني. القرار ليس مجرد إجراء تنظيمي، بل رسالة واضحة لكل من حاول توظيف الدين كسلاح ضد الجنوب، ويؤكد أن إدارة الشأن الديني أداة حيوية للحفاظ على المجتمع وتأمين استقراره.

لقد أثبت التاريخ أن الفتوى يمكن أن تتحول إلى أداة حرب عندما تُترك دون إطار مؤسسي منضبط. حرب صيف 1994 تشكل المثال الأبرز، حين أصدرت هيئات دينية وعلماء في الشمال فتاوى "الجهاد" ضد الجنوبيين، وصفتهم بالكفار وأباحت دماءهم وممتلكاتهم. هذه الفتاوى لم تقتصر على النصوص، بل أدت إلى استجلاب عناصر متطرفة ومقاتلين أجانب، عُرفوا باسم "الأفغان العرب"، للمشاركة في الحرب، ما زاد من سفك الدماء وتدمير البنية التحتية الجنوبية.

ولحسن الحظ، كان هناك موقف مشرف من أهل العقيدة، حيث وقف كبار علماء الحرمين الشريفين، وعلى رأسهم الشيخ ابن عثيمين والشيخ الجبرين، إلى جانب علماء الأزهر الشريف ضد تلك الفتوى الظالمة، وسجلوا موقفهم الشريف وبرّوا لله من ما قاله الديلمي في فتواه. وهذا يفتح اليوم السؤال: هل نرى من أهل العقيدة رداً وموقفاً يحقن الدم المسلم في عدن والجنوب ويعيد الدين إلى مكانته الأخلاقية؟

الأدهى من ذلك أن آثار تلك الفتاوى لم تتوقف بانتهاء الحرب، بل استمرت لسنوات طويلة، وظهرت مجددًا خلال الحراك الجنوبي السلمي في عام 2007، حيث صدرت فتاوى جديدة تصف الجنوبيين وحراكهم الشعبي بأنهم "مرتدون عن الدين"، في محاولة لتجريم مطالبهم المشروعة وتهميش أي شرعية أخلاقية أو سياسية. هذه الفتاوى صدرت عن هيئات دينية خاضعة لسيطرة جماعة الإخوان المسلمين (حزب الإصلاح)، التي استخدمت الدين كأداة للسيطرة السياسية وليس كمرجعية أخلاقية.

تأسيس هيئة الإفتاء الجنوبية اليوم هو خطوة دفاعية قبل أن تكون تنظيمية. فهي تحمي الشعب الجنوبي من أي فتوى تحريضية مستقبلية، وتعيد الدين إلى موقعه الطبيعي كمرجعية قيمية وأخلاقية تعزز التعايش، لا أداة للقتل والتخوين. الهيئة تهدف إلى توحيد المرجعية الدينية الجنوبية، ومنع أي استغلال سياسي أو فكري للدين، وحماية المجتمع والمكتسبات الوطنية من أي تهديد.

إن هذه الخطوة تمثل فصلًا واضحًا بين الدين والسياسة، إذ لا يعني تنظيم الشأن الديني تديين السياسة، بل يمنع استخدام الدين كسلاح للصراع. وكل الدول تمتلك هيئات دينية رسمية تضبط الفتوى وتحمي المجتمع من الفوضى، والسؤال المنطقي هنا: لماذا يصبح هذا الحق مشروعًا في كل مكان، وخطرًا فقط عندما يتعلق بالجنوب؟

وجود هيئة إفتاء جنوبية مستقلة يعكس أيضًا قدرة الجنوب على إدارة شؤونه الدينية والمجتمعية بنفسه، وحماية نسيجه الاجتماعي من فتاوى التحريض والتكفير، وقطع الطريق أمام أي محاولات للوصاية الدينية والسياسية من خارج حدوده. وعلى الرغم من الجدل المصاحب للقرار، فإنه خطوة تراكميّة في مسار بناء مؤسسات الدولة الجنوبية، التي لا تُبنى بالشعارات، بل بالمؤسسات المنظمة، والجنوب يسير بثبات على هذا الطريق.

هيئة الإفتاء الجنوبية ليست استفزازًا لأحد، ولا مشروع صراع ديني، بل قرار وطني دفاعي يهدف إلى حماية المجتمع الجنوبي، منع تكرار مآسي الماضي، وترسيخ مبدأ أن الدين للسلام لا للحرب. والجنوب اليوم يقول بصوت واضح:
"تعلمنا من جراحنا… ولن نسمح بعد اليوم بتوظيف الدين كسلاح ضدنا."

متعلقات