الجدري: الإمبراطورية القاتلة التي أسقطها العلم — دراسة تاريخية تحليليّة شاملة

الإثنين - 24 نوفمبر 2025 - الساعة 08:24 ص بتوقيت العاصمة عدن

" عدن سيتي " نسيم الجبل : متابعات





الجدري: الإمبراطورية القاتلة التي أسقطها العلم — دراسة تاريخية تحليليّة شاملة

وُلد الطبيب الإنكليزي إدوارد جينر عام 1749 في قرية بيركلي بإنكلترا، في بيئة ريفية هادئة شكّلت وعيه العلمي المبكر، إذ كان يقضي طفولته مراقبًا حركة الطبيعة، وسلوك الحيوانات، وتفاصيل الحياة اليومية في الريف. هذه الملاحظات البسيطة ستتحول لاحقًا إلى بذرة أكبر ثورة طبية عرفتها البشرية. لم يكن جينر مجرد طبيب يمارس عمله، بل كان عقلًا يبحث في كل شيء، يلتقط الفكرة من لحظة عابرة، ويحوّلها إلى فرضية، ثم إلى تجربة، ثم إلى قانون علمي يبدّل مصير العالم. ولأن شخصية العالم لا تنفصل عن تجربته، فقد كان جينر إنسانًا حذرًا، حساسًا، وفي الوقت نفسه شجاعًا إلى حدّ يقف فيه على حافة المغامرة العلمية التي يمكن أن تودي بحياة أقرب الناس إليه؛ ومع ذلك، لم يتراجع، لأن الشعور بالمسؤولية تجاه الألم الإنساني كان أكبر من خوفه.

قبل اكتشافه، كان مرض الجدري إمبراطورية رعبٍ بلا منازع. وباء يسبق الجيوش ويهزم المدن ويقتحم الممالك، يقتل بلا رحمة، ويشوّه من ينجو منه. سجّل التاريخ خلال القرون الأخيرة أكثر من 62 مليون وفاة في أوروبا وحدها قبل أن يظهر اللقاح، ثم تجاوز عدد الضحايا 400 مليون إنسان في القرن العشرين وحده. الجدري لم يكن مرضًا، بل استعمارًا بيولوجيًا يمحو الأسر، ويدفن الأجيال، ويترك الناجين بعاهات مقيمة على الجلد والعيون والحياة النفسية. ومع عجز الأطباء عن علاجه، وقف البشر أمامه كضحايا في انتظار السيف.

في أواخر القرن الثامن عشر، لاحظ جينر ظاهرة غريبة كانت تتكرر أمامه: مربيات الأبقار وبائعات اللبن كنّ يُصبن بمرض جلدي خفيف يُعرف بـ“جدري البقر” (Cowpox)، لكنه سرعان ما يختفي دون أن يترك أثرًا. والأغرب أن هؤلاء النسوة لا يُصبن أبدًا بجدري الإنسان القاتل الذي كان يحصد الأرواح من حولهن. لم يتعامل جينر مع هذه الملاحظة كصدفة، بل كإشارة. بدأ يسأل نفسه: هل يمكن أن تكون إصابة خفيفة بجدري البقر نوعًا من "التدريب" المناعي الذي يحمي الإنسان من الجدري الحقيقي؟ وهل يمكن تسخير هذا المرض البسيط لإيقاف أعنف أمراض ذلك العصر؟ كانت هذه الأسئلة هي الجسر الذي انتقل عبره جينر من الملاحظة إلى الفرضية، ثم إلى التجريب.

ولإثبات نظريته، كان لا بدّ من خطوة بالغة الخطورة: حقن إنسان سليم بفيروس جدري البقر، ثم بعد أن يتعافى، يُعرّض عمدًا لفيروس الجدري القاتل ليرى هل ستمنحه التجربة المناعة أم تقتله. أدرك جينر حجم المخاطرة، وأدرك أنه ربما يفقد الشخص الذي سيخضع للتجربة. لكن المرعب أنه اختار أن يكون هذا الشخص ابنه الوحيد. لم يكن هذا جنونًا كما اتهمه زملاؤه؛ بل كان إعلانًا عن ثقة مطلقة في الفكرة، لأن عالمًا يحقن ابنه بمرض معدٍ لا يمكن أن يفعل ذلك إلا وهو على يقين علمي داخلي عميق.

في 14 مايو 1796 أجرى جينر تجربته الشهيرة: شقّ جلد الطفل، ووضع مادّة مأخوذة من بثور امرأة مصابة بجدري البقر. أصيب الطفل بحمى خفيفة ثم تعافى. بعد أسابيع، نفّذ جينر الخطوة الأكثر خطورة في تاريخ الطب: حقن الطفل بفيروس الجدري البشري نفسه. كانت لحظات مرعبة؛ لو فشلت التجربة، لكان جينر قاتلاً في نظر العالم، ومجرمًا في نظر نفسه. لكن النتيجة جاءت عكس أغلب المخاوف: الطفل لم يُصب بالمرض. لم ترتفع حرارته، لم يظهر طفح، لم يتدهور جسده. كان ذلك أوّل برهان علمي على أنّ المناعة يمكن صناعتها قبل وصول المرض، وأنّ الجسم قادر على تشكيل "جيش" دفاعي دائم بعد إصابته بفيروس ضعيف أو قريب من الفيروس القاتل.

ولكي يؤكد جينر أن النتيجة ليست صدفة، كرر التجربة على طفل آخر يُدعى جيمس فيبس، وهو أحد أبناء عمومته. حقنه بجدري البقر، ثم لاحقًا بجدري الإنسان، وكانت النتيجة مطابقة: مناعة كاملة. عندها أصبح اكتشافه حقيقة علمية، وتحولت تجربته إلى قاعدة كبرى في علوم الطب: المناعة تُصنع بالتطعيم، وليس بالانتظار السلبي لوصول المرض.

واجه جينر موجة سخرية وعداء عنيفين. اتُّهم بالجنون، وبأنه يخالف الطب السائد، وبأنه يعرّض البشر للخطر. ومع ذلك لم يتراجع، بل قدّم دليلًا علميًا بعد آخر. ومع مرور الوقت، أصبحت نتائجه أساسًا لعلم المناعة الحديث، الذي انطلقت منه كل برامج التطعيم اللاحقة. أعظم ما فعله جينر أنه تنازل عن براءة اختراعه، وسمح بتوزيع اللقاح مجانًا، إيمانًا منه بأن العلم يجب أن يكون متاحًا للجميع، وأن النجاة من الأمراض ليست امتيازًا ماليًا، بل حقًا إنسانيًا عامًا.

ومع انتشار برامج التطعيم عالميًا، تحقق الإنجاز الأكبر في تاريخ الصحة: استئصال الجدري تمامًا عام 1980. وهو أول مرض يُمحى من الوجود نتيجة تعاون بشري شامل بين العلم والدول والمنظمات الصحية. كانت آخر حالة مسجلة في الصومال قبل الإعلان الرسمي. بذلك أغلق العالم ملف أخطر مرض عرفته البشرية، بفضل اكتشاف بدأ بملاحظة بسيطة في مزرعة ريفية.

إن قصة جينر تذكّر بأن العلم ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية. وأن الحضارات تبنى حين يُحترم العقل، ويُمنح فضاءً للبحث والملاحظة والتجربة. فما ميّز جينر ليس امتلاكه أدوات متقدمة، بل امتلاكه فضولًا حرًا ورغبة صادقة في تخفيف الألم الإنساني. وبينما تختلف مجالات المعرفة وتتنوع اختصاصات العلماء، فإن القيمة الحقيقية تكمن في أن يتحول العلم — أي علم — إلى خدمة للإنسان وحياة الإنسان. فالتاريخ لا يميز بين علم شرعي أو علم طبي أو علم اجتماعي؛ بل يميز بين علم يرفع الإنسان، وعلم يُستخدم لغير ذلك.

لقد ترك جينر إرثًا أخلاقيًا قبل أن يترك اكتشافًا علميًا: الشجاعة، والمبادرة، والإيمان بأن السعي المعرفي يمكن أن يغير مصير العالم. ومن تجربته تفهم البشرية اليوم أن العقل حين يُمنح الحرية والمسؤولية، يصبح قادرًا على مواجهة أعظم التحديات التي تهدد حياة الإنسان، وأن كل تقدم يبدأ من سؤال بسيط يقود إلى اكتشاف عظيم.


متعلقات