الثلاثاء-12 أغسطس - 04:12 ص-مدينة عدن

رأسماليّة الدّم في غزّة!

الثلاثاء - 12 أغسطس 2025 - الساعة 12:21 ص بتوقيت العاصمة عدن

الوطن العربي " عدن سيتي ". يحيى اليحياوي : متابعات




في بداية شهر يوليو/تموز الماضي، أصدرت فرانشيسكا ألبانيزي، المقرّرة الخاصّة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، التّابعة للأمم المتحدة، تقريرًا مُفصّلًا عن واقع ومآل هذه الحقوق في ظلّ الاحتلال، حمل عنوان: "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية" في غزّة. هو تقريرٌ موثّقٌ، لأنّه ينبني على أكثر من مائتي مساهمة ميدانيّة طالت أكثر من ألف شركة عالمية، وتأكّد للمقرّرة بالحجّة والدليل، أنّ هذه الشركات متورّطة فعلًا ومباشرةً، في الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان الفلسطيني في غزّة والضفّة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023.


يخلُص التقرير، بمعاينة دقيقة للمعطيات المتوافرة لديه، إلى نتيجةٍ واحدة، لكنّها مأساوية ومُرعبة، لأنّها تختزل كلّ عذابات أهل غزّة: إنّ السرّ في استمرار، ثم الإمعان في استمرار، هذه الحرب المُدمّرة، إنّما يكمن في كونها عملية مُربحة ومردودها مضمون بالنسبة لعشرات الشركات والمؤسّسات المنخرطة فيها، عسكرية ومدنية على حدٍّ سواء.



صحيحٌ، هي شركات تُسوّق سلعًا وخدماتٍ لفائدة إسرائيل، لكنّها تستثمر في اقتصادٍ بات حيويًّا، مُراكمة الربح فيه مرتفعة واحتمال المجازفة من بين ظهرانيه ضعيفة ومُتدنّية: إنّه الاقتصاد المحرّك لرأسماليّة الدّم في غزّة. اقتصاد لا يشكو العرض ولا يحدّه الطلب، بل يتحرّك بانسيابية كبرى طالما الطلب قائمٌ وثابتٌ، والعرض متنوعٌ ومضمون.


الشركات المُتاجرة بالدم تحتكم في أبحاثها وتجاربها إلى شبكة واسعة من الجامعات والمعاهد الأكاديمية المشهورة
في قطاع الأسلحة الفتّاكة مثلًا، عمدت شركتا "إلبيت" (Elbit Systems) و"لوكهيد مارتن" (Lockheed Martin) الأميركيتان، إلى تزويد إسرائيل بشتّى أنواع الذخائر المُدمّرة، بما فيها القنابل العنقودية، ثم بطائرات الـ"إف 35" (F-35) المتقدّمة، والتي أسقطت وحدها على غزّة، ما يوازي 85 ألف طن من القنابل، أي أضعاف قوة القنبلة التي ألقيت على مدينة ناغازاكي اليابانية في أربعينيّات القرن الماضي، ثم بسلسلةٍ متكاملةٍ من القنابل المُجرّبة ميدانيًا، منها ما تمّ تجريبه في قطاع غزّة ذاته.
الشركات الأميركية للسلاح لا تنتظر تفاصيل الطلبيّات، إنّها تتكفّل بصياغتها من تلقاء نفسها، وتبعث بها عبر جسرٍ جويّ مُفعّل آناء الليل وأطراف النهار، فيما تتكفّل بالتمويل شركات "بلاك روك" (BlackRock) و"فانغارد" (Vanguard) و"بي.إن.بي. باريبا" (BNP Paribas)، عبر اقتناء عشرات المليارات من الدولارات من سندات الخزانة الإسرائيلية والشركات التي تعمل في قطاع السلاح لديها.




في مجال الطاقة، تُبيّن وثائق التقرير أنّ شركة "شيفرون" (Chevron) وفّرت لإسرائيل دفعات ضخمة من الفحم والنفط والغاز التي تلجأ إليها هذه الأخيرة لإطباق حصارها على أفران غزّة ومستشفياتها.
في قطاع التكنولوجيّات الدقيقة والرقابة، يقول التقرير بالواضح الصريح: "قدّمت "مايكروسوفت" و"غوغل" و"أمازون" أنظمة ذكاء اصطناعي مثل "لافندر" (Lavender) لاستهداف الفلسطينيين، ووفّرت لإسرائيل خدمات سحابيّة لتخزين المعلومات".
كما استخدمت إسرائيل آليات وجرافات شركات "كاتربيلر" و"فولفو" و"هيونداي" لهدم المنازل في غزّة والضفّة الغربيّة، على رؤوس أ

صحابها ودفنهم تحت أنقاضها أحياء.
شركات وبُنى مؤسّساتية تتغذّى على الإبادة الجماعية
لو وسّعنا نطاق عمل هذه الشركات المُتاجرة بالدم، لوجدنا أنّها تحتكم في أبحاثها النظرية وتجاربها التطبيقيّة، إلى شبكةٍ واسعةٍ من الجامعات والمعاهد الأكاديمية المشهورة، والتي لا تتحرّج من إعلان تواطئها مع إسرائيل ومع منطق اقتصاد الدم.
إنّه لمِن المُرعب أن نجد معهدًا مرموقًا كمعهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا" متورطًا في اقتصاد الدم السائد، إذ من بين ظهراني مختبراته تُجرى الأبحاث العسكرية المتقدّمة والتجارب العمليّة في مجال الأسلحة الفتّاكة، وتُصمَّم برمجيّات الذكاء الاصطناعي التي تراقب وتطارد وتوجّه آلة الحرب في الليل والنهار. أمّا برنامج "أفق أوروبا" (Horizon Europe) التابع للمفوّضية الأوروبية والمُمَوّل من لدنها، فقد وطّد علاقاته مع مؤسّسات أكاديمية إسرائيلية متواطئة للغرض ذاته أيضًا.




في صلب ذلك، تكفّلت الجامعة التقنية في مدينة ميونيخ الألمانية، وبشراكةٍ مع شركة "آي.بي.إم" (IBM) للمعلوميّات، بتطوير أنظمة مُتطوّرة للتخزين السحابي والذكاء الاصطناعي، وتقنيّات المعطيات الضخمة.
كلّها شركات وبُنى مؤسّساتية تتغذّى على اقتصاد الدم، أي على مسلسل الإبادة الجماعية الجاري بمعرفة، وأمام أنظار، كلّ سكان الكوكب.


ما رأسمالية الدّم إذن؟


- هي جزءٌ من حركيّة دورة رأس المال التي لا غاية لها إلّا الربح، حتى وإن كانت الوسائل لإدراكه، مذمومةً أو مُدانةً أو غير مُؤطّرةٍ بالقانون. إنّها الرأسمالية الحاضنة لسوق الدم المُخوصص، المفتوح والمُباح.
- هي نمطٌ في التراكم والإنتاج لا يعتدّ بقيمٍ، ولا تحدّه أخلاق ولا تردعه نواميس. إنّه يُقْدِمُ على المحذور، ولا يتردّد في الدفاع عنه وتسويقه باعتباره مجالًا من مجالات السوق. الدم المُسال هنا كفيل بتبييض الربح المتأتّي من تدفّقه.


سوق الرأسمالية في غزّة هو سوق الدم بامتياز
- ثم هي فضاءٌ محميٌ ومُصانٌ، إذ القوة سنده والبطش أداته والتضليل منهجه. رأسمالية مُتخلّصة من المُساءلة وشركاتها مُحصّنة ضدّ المتابعة.
سوق الرأسمالية في غزّة، هو سوق الدم بامتياز. هو مادتها، مُحرّكها ومُحفزُها. إذ كلّما كانت الأسلحة فتّاكةً والدم غزيرًا، كلّما ارتفعت قيمة الشركات المُنتجة لها، في بورصات القيم العالمية وفي سوق الرساميل الجوّالة!.



"عروبة 22"

متعلقات