الأمن الغذائي والمائي..
تربية المواشي أم زراعة الأراضي؟!قطعة اللحم أم رغيف الخبز؟
السبت - 12 يوليو 2025 - الساعة 01:26 ص بتوقيت العاصمة عدن
الوطن العربي "عدن سيتي " نادر نور الدين محمد
تربية المواشي أم زراعة الأراضي؟!قطعة اللحم أم رغيف الخبز؟
تعاني جموع الدول العربية من نقصٍ حاد في الموارد المائية تصل إلى حدَّي الندرة والندرة المُزمنة، بل إنّ بعضها يصل نصيب الفرد فيها من الموارد المائية الطبيعية المتجدّدة إلى الصفر مثل دولة الكويت التي تعتمد بشكلٍ كاملٍ على تحلية مياه الخليج. يُستثنى من هذه النّدرة موريتانيا والسودان وجزئيًا لبنان، بينما خرجت العراق وسوريا من بلدان الوفرة بسبب سلاسل سدود تركيا وإيران.
من المعلوم أنّ قطاع الزراعة هو القطاع الأعظم استهلاكًا للمياه بمتوسطٍ عالميّ قدره 70% من إجمالي الموارد المائية المُتاحة، ويصل في البلدان العربية إلى ما بين 80 و90%، بينما لا يزيد استهلاك المياه منزليًا عن 10% والصناعة عن 5% فقط!. وعندما تُعاني البلدان من الندرة المائية فينبغي أن يكون القطاع الصناعي هو الوجهة الرئيسيّة للتنمية وليس القطاع الزراعي، إذ يتّسم القطاع الصناعي بقلّة استهلاكه للمياه وزيادة عائده الاقتصادي من وحدة المياه.
ينبغي التوسّع في القطاع الصناعي المحلّي والتصديري ثم استيراد الغذاء بعائد التصدير
فعلى سبيل المثال، يستهلك القطاع الصناعي في مصر 2.5 مليار مترٍ مكعّبٍ فقط من المياه سنويًا، بينما يشارك في النّاتج المحلي بنحو 19.1%، في حين يستهلك القطاع الزراعي 62.5 مليار مترٍ مكعّبٍ سنويًا ويشارك في النّاتج المحلي بنحو 11.9% فقط (بنك عودة - مصر 2020). بالإضافة إلى ذلك، فإنّ العائد من المتر المكعّب من المياه في قطاع الزراعة لا يتجاوز 0.10 – 0.02 دولارًا، بينما يتراوح في القطاع الصناعي من دولار واحد إلى 5 دولارات، وبالتالي فالتوصية هي التوسّع في القطاع الصناعي المحلّي والتصديري ثم استيراد الغذاء بعائد التصدير مثلما تفعل اليابان والتي تمتلك القليل من الأراضي الزراعيّة، ثم السعودية والإمارات عربيًا. وللملكة العربية السعودية درسٌ قاسٍ إذ استنزفت مياهها الجوْفية في إنتاج وزراعة القمح في الصحراء وبتكلفة عشرة أضعاف أسعاره في البورصات العالمية ثم أقلعت عن الأمر، ولكن بعد خسارة مصدر طبيعيّ عظيم الشأن وهو المياه العذبة، اتّجهت إلى التنمية الصناعية مؤخّرًا فتحسّنت الأحوال اقتصاديًا وانضمّت إلى مجموعة العشرين الصناعية.
المناخ البارد في الثروة الحيوانية بنّاء للّحوم ولإدرار الألبان
وأثيرت مؤخّرًا مناقشات حول انخفاض إنتاجيّة الأبقار العربية مقارنةً بالأبقار الأوروبية وحتمية تحسين هذا الأمر! والحقيقة أنّ الدول العربية ليست دولًا أوروبيةً حتى يمكن المقارنة بينها، ولكن تتمّ المقارنة أولًا بالإنتاج اللّحمي واللّبني بينها وبين الدول الأفريقية والآسيوية التي تنتمي إليها مناخيًا، وثانيًا أنّ الدول الأوروبية تتّسم بنحو عشرة أشهر من المُناخ البارد الممطر بينما على العكس تتّسم الدول العربية بصيفٍ طويلٍ شديد الحرارة يستمرّ تسعة أشهر. فالمُناخ البارد في الثروة الحيوانية هو مُناخ بنّاء للّحوم ولإدرار الألبان لأنه يشجّع على إقبال المواشي على أعلافها، بالإضافة إلى أنّ الأمطار تعمل على نموّ المراعي الطبيعية الخصبة ذات القيم الغذائية العالية والتي تتناولها المواشي بأسعارٍ شبه مجانية. بينما تُطعم الدول العربية مواشيها بالأعلاف المستورَدة غالية الأثمان، ولذلك تستهلك الأبقار على سبيل المثال 15 كلغ من الأعلاف يوميًا بسبب الشتاء البارد بينما لا تستهلك أكثر من 5 كلغ فقط في المنطقة العربية الحارّة، وبالتالي فتربية المواشي مُكلفة للغاية عربيًا عند اللجوء إلى الإنتاج الموسّع.
في المقابل، فإنّ الصيف العربي الطويل الحارّ هو مناخ هدّام لا تبني فيه المواشي لحومًا ولا ألبانًا، وتميل إلى شرب المياه أكثر من تناول الطعام لتقليل آثار الحرارة عليها، مثل الإنسان تمامًا الذي يأكل كثيرًا في الشتاء بينما يشرب كثيرًا في الصيف. ولذلك، فإنّ مقارنة نموّ وإنتاج الأبقار في أوروبا بمثيلاتها في الدول العربية أمرٌ غير علمي، ويمكن الانتقال إلى تربية الجاموس التي خُلقت للمناخ الحارّ الجافّ مثل المناخ العربي وتصل أوزانها إلى 1200 كلغ للرأس، بينما لا يتجاوز وزن أي رأس من الأبقار 600 كلغ حتى مع زرع هرمون النموّ خلف أذنَيْها.
في الدول التي تعتمد على غزارة الهطول المطري الذي يُنبت المراعي والمروج تكون تربية المواشي غير مكلفة
الأمر الآخر أنّ تربية المواشي تتمّ في بلدان الوفرة المائية مثل البرازيل أكبر دول العالم تصديرًا للحوم والدواجن بأمطارها الغزيرة ونهرها الأمازون ذي التدفّقات الخيالية والتي تصل إلى 5550 مليار مترٍ مكعّبٍ سنويًا ويلقّب بالنهر المحيط وتُبحر فيه السفن المحيطيّة ويحتوي على 20% من مياه أنهار العالم! ونصيب الفرد من المياه في البرازيل يقارب 24 ألف مترٍ مكعبٍ سنويًا أي 24 ضعف حدّ الفقر المائي والذي تعيش تحته جلّ البلدان العربية، مقارنةً بنهر النيل أطول أنهار العالم بتدفّقات 84 مليارًا فقط. وهناك أيضًا آسيويًا الهند والتي يوجد فيها 400 نهر، إلى أمطارٍ صيفيةٍ ونحو 408 ملايين فدّان كأرضٍ زراعيةٍ هي الأكبر عالميًا، ثمّ إثيوبيا وتنزانيا والسودان وأستراليا وغيرها. هذه الدول تعتمد جميعها على غزارة الهطول المطري الذي يُنبت ويُخرج المراعي والمروج الطبيعية لرعي المواشي وبالتّالي تكون تربيتها غير مكلفةٍ، بعكس البلدان العربية المستورِدة للأعلاف والتي تبلغ أكثر من 65% من تكاليف تربية الأبقار والدواجن، ومع ذلك يدّعون الاكتفاء الذاتي من الدواجن على الرَّغم من استيراد مكوّنات تربيتها!.
أمّا في البلدان العربية التي تعتمد على الزراعة المرويّة نظرًا لغياب الهطول (الزراعات المطرية تمثّل 83% من زراعات العالم)، فإنّ الرأس الواحد من الأبقار يستهلك نحو 5000 مترٍ مكعبٍ من المياه شربًا وإنتاجًا للأعلاف الجافّة والخضراء، وهو يُعادل احتياج فدّان (4200 م2) أو إيكر (4000 م2) من الأراضي الزراعية بالريّ الحديث في مناخٍ صيفي ليس بالقاسي مثل مناخ مصر، بينما يستهلك أكثر من ذلك في مناخ دول الخليج شديد الحرارة. وعادةً ما يكون إيراد الفدّان ماليًا ما يُعادل نحو ألف دولارٍ سنويًا، ويستمرّ الإنتاج طول العمر حيث ليس للأراضي الزراعية عمر افتراضي ويستمر إنتاجها لآلاف السنين، فهل تربية رأسٍ من الأبقار تُعطي عائدًا سنويًا ألف دولار ويستمرّ عطاؤه عمرًا مثل الأراضي الزراعية أم عادةً ما تُستهلك وتتحوّل إلى لحمٍ خلال ثلاث إلى أربع سنوات؟!.
ليس للدول العربية الحارّة أي ميزة نسبية في تربية المواشي المستهلِكة للمياه شربًا وعلفًا
الفدّان من الأرض الزراعية يكفي لإطعام ألف فردٍ سنويًا طول العمر وينتج قمحًا وأرزًا وشعيرًا وذرةً وفولًا وعدسًا وزيوت طعام وفاكهةً ونخيلًا، بينما رأس من الأبقار لا يُطعم أبدًا مثل هذا العدد لا لحمًا ولا لبنًا، ولفترةٍ محدودة. وهل هذا يعني عدم تربية المواشي نهائيًا؟! بالطبع لا، لكن الأجدى الاحتفاظ بالقائم منها حاليًا مع التوسّع في زراعة الترب الصالحة للزراعة.
الخلاصة أنّه ليس للدول العربية الحارّة أي ميزةٍ نسبيةٍ في تربية المواشي المستهلِكة للمياه شربًا وعلفًا وأنّها تصلح لبلاد الوفرة المائية فقط، بينما ينبغي للدول العربية أن تتحوّل إلى إنتاج الدواجن فقط الأعلى اقتصاديةً في استهلاك المياه ومعها زراعة الأراضي الزراعيّة لتقليل الفجْوة الغذائية العربية وتحقيق قدرٍ من الأمن الغذائي وليس أبدًا الاكتفاء الذاتي. وقبل كل ذلك، استثمار المياه القليلة عربيًا، بخاصة الجوْفية منها، في الإنتاج الصناعي عالي العائد قليل استهلاك المياه، ومعها الإجابة عن السؤال: هل الأولوية لقطعة اللحم أم لرغيف الخبز؟!.
"عروبة 22 "