الإثنين-02 يونيو - 07:22 ص-مدينة عدن

"التربية الهادئة"..هل هي الحل الأمثل لنشأة طفل متوازن عاطفيًا؟

السبت - 31 مايو 2025 - الساعة 09:40 م بتوقيت العاصمة عدن

عدن سيتي _متابعات

في زمننا"، يقول بعض الأجداد لأبنائهم البالغين، "لم نكن نسمح لأطفالنا بالكلام من دون أن يُطلب منهم ذلك، أو بالرد من دون توبيخ، أو بالتشكيك في قرارات الأهل من دون أن يترتب عواقب على ذلك".

ماذا عن عقوبة الوقوف في الزاوية (Time-out)؟ أو عبارة: "سأعطيك سببًا حقيقيًا للبكاء"؟

هناك شريحة من الآباء والأمهات ترفض هذا النوع من التربية، وتتبنى أسلوبًا تعتقد أنه أكثر فاعلية، يُعرف بـ"التربية الهادئة".

كثيرًا ما يُساء فهم التربية الهادئة، وغالبًا ما يُنظر إليها على أنها نوع من التدليل، وفقًا لما ذكره الدكتور براين رازينو، اختصاصي علم النفس السريري المعتمد في فولز تشيرش، بولاية فيرجينيا الأمريكية.

تركز التربية الهادئة، غالبًا حول تعليم مهارات الحياة وتحضير الأطفال لمرحلة البلوغ، ووضع حدود واضحة.

تزداد شعبية هذه المقاربة التربوية، ذلك أن قرابة نصف عدد الأهل أشاروا إلى أنهم يحاولون تربية أطفالهم بطريقة مختلفة عن الطريقة التي نشأوا عليها، وذلك بحسب تقرير صادر عن مركز بيو للأبحاث في عام 2023. وذكر هؤلاء أنهم يسعون إلى منح أطفالهم المزيد من الحب والحنان، والانخراط في حوارات صادقة ومفتوحة، وتقليل الصراخ، وزيادة الإصغاء.

لكن، تكمن المشكلة بأن كثيرين، حتى من يصفون أنفسهم بأنهم يتبعون أسلوب "التربية الهادئة"، يختلفون في التفاصيل والتطبيق.

في ما يلي، ما يحتاج الأهل لمعرفته عن هذا الاتجاه الحديث بعالم التربية.

أنماط التربية الرئيسية
حدد الباحثون النفسيون أربعة أنماط رئيسية في أساليب التربية:

الإهمالي (Neglectful)
السلطوي (Authoritarian)
المتساهل (Permissive)
الحازم المُتفهم (Authoritative)

قالت نيكول جونسون، المستشارة المهنية المعتمدة في بويزي، بولاية أيداهو الأمريكية، إن أسلوب التربية الإهمالية يتميّز بغياب الدفء تجاه الطفل، وغياب القواعد المنظمة لسلوكه.

قد يُظهر الطفل سلوكًا سيئًا، كأن يكسر لعبة مثلاً، من دون أن يلقى رد فعل يُذكر من الوالد المُهمل، الذي ربما لم يكن يولي اهتمامًا لطريقة لعب الطفل أصلاً.

أما أسلوب التربية السلطوية، فهو يركّز على الطاعة الصارمة والاستجابة العقابية، كما تقول جونسون، ويُجسّد بمقولة: "لأنني قلت ذلك فقط".

في هذا السياق، من المرجح أن يُوبَّخ الطفل الذي كسر اللعبة، ويُرسل إلى "ركن العقاب" (time-out)، دون أي نقاش يُذكر أو تفسير للموقف.

أما أسلوب التربية المتساهلة فيتميّز بالدفء والحنان تجاه الطفل، لكنه يفتقر إلى البنية والانضباط.

في هذه الحالة، قد يعترف الوالدان بأن الطفل كسر اللعبة بدافع الإحباط، لكنهما لا يفرضان أي عواقب أو حدود واضحة بعد ذلك.

أما أسلوب التربية الحازمة المُتفهمة فيسعى إلى تحقيق توازن بين الانضباط والدفء العاطفي.

أوضح رازينو: "يركّز هذا الأسلوب أكثر على تعزيز قدرة الطفل في فهم ما يحدث داخله، ومشاعره الخاصة"، مضيفًا أنّ "الأهل الذين يتّبعون هذا النمط يحرصون على التعاطف مع الطفل، وإظهار الاحترام أثناء الحديث معه، والاعتراف بأن مشاعره مشروعة"، لكنّهم "يحافظون على حدود واضحة وثابتة في السلوك".

من الجدير بالذكر أن التربية الهادئة (Gentle Parenting) لا تُدرج ضمن أنماط التربية الأربعة الرئيسية. ورغم شعبيتها الكبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها لا تزال مصطلحًا جديدًا نسبيًا ولم يتم تناوله كثيرًا في الأدبيات العلمية.

ماذا يقصد المؤثرون بـ"التربية الهادئة"؟
في دراسة أجريت خلال عام 2024، سعى الباحثان آني بيزالا وأليس ديفيدسون إلى استكشاف ما يعنيه مؤثرو التربية على وسائل التواصل الاجتماعي، عندما يتحدثون عن "التربية الهادئة".

قالت آني بيزالا، الأستاذة الزائرة بعلم النفس بكلية ماكاليستر فبسانت بول، في ولاية مينيسوتا الأمريكية، إنّ "الأهل الذين عرّفوا عن أنفسهم بأنهم يتّبعون أسلوب التربية الهادئة، كانوا يركّزون بشكل كبير على تنظيم المشاعر. هؤلاء الأهل يسعون بجهد للحفاظ على الهدوء بأي ثمن، إن أمكن، سواء في طاقتهم أو مشاعرهم".

وأضافت: "في نظرنا، هم يشبهون إلى حد كبير الأهل الذين يتّبعون الأسلوب الحازم المتفهّم. هؤلاء يحاولون وضع حدود واضحة، وتطبيق العواقب مع أطفالهم، رغم أنهم يُظهرون في الوقت ذاته حبًا غير مشروط وعاطفة غامرة تشبه ما نراه غالبًا لدى الأهل المتساهلين".

وأوضحت أن التربية الهادئة، على غرار التربية الحازمة المتفهمة، تؤكد على أهمية وضع الحدود، مع الحفاظ على الدفء والتعاطف. لكن تطبيق هذا الأسلوب يختلف من أسرة إلى أخرى.

في بحثها، سألت بيزالا الأهل الذين يصفون أنفسهم بأنهم يتبعون "التربية الهادئة" عن ممارساتهم اليومية. وخلصت إلى أن بعضهم يتصرف بطريقة تشبه الأسلوب الحازم المتفهم، بينما يميل آخرون إلى سلوكيات تتماشى أكثر مع النمط المتساهل.

بالنسبة لرازينو، مؤلف كتاب "إيقاظ الأبطال الخمسة: مفاتيح النجاح لكل مراهق"، فإن ما يُشار إليه غالبًا على وسائل التواصل الاجتماعي باسم "التربية الهادئة" ليس إلا تسمية أخرى لأسلوب التربية الحازمة المتفهمة، المتمثلة بالحفاظ على الترابط مع الطفل، وتعليمه كيفية تنظيم مشاعره وسلوكياته، وفرض الحدود من موقع الوالد المُحب والسلطة المتفهمة.

هل أصبحنا نتساهل أكثر من اللازم مع الأطفال؟
تخيّل طفلًا يرمي طعامه على الأرض.

الوالد المتساهل قد يقول: "من فضلك لا تفعل ذلك"، ثم لا يتخذ أي إجراء آخر لفرض الحدود.
الوالد السلطوي قد يرمق الطفل بنظرة صارمة، ويعاقبه على الفور، سواء بإرساله لزاوية العقاب، أو حتى بالضرب، أو بحرمانه من الطعام وإرساله للنوم جائعًا.

أما الوالد الحازم المتفهم، الذي يعكس ما يقصده الكثيرون عند الحديث عن "التربية الهادئة"، فسيقول مثلًا: "ألاحظ أنك تشعر في رغبة باللعب، لكن الطعام يجب أن يبقى في الصحن. يمكنني أن أعطيك شيئًا آخر لتشغل يديك به أثناء العشاء، لكن إذا رميت الطعام مجددًا، سأضطر إلى أخذ الصحن بعيدًا".

هذا الأسلوب يُظهر احترامًا لمشاعر الطفل، ويوضح الحدود، ويُقدم بديلاً إيجابيًا، من دون التخلي عن الحزم أو المحبة.

قالت جونسون إن بعض الأشخاص ينتقدون هذا الأسلوب في التربية باعتباره متساهلًا جدًا مع الأطفال، حيث يعتبرون أن العالم قاسٍ بطبيعته، وأن الأطفال بحاجة إلى أن يتعلموا كيفية التعامل مع هذه القسوة

لكن الهدف من هذا الأسلوب التربوي ليس حماية الطفل من تحمّل المسؤولية، بل الوصول إلى حالة من الهدوء للطرفين، الأهل والطفل، ومنح الطفل أدوات تساعده على اتخاذ قرارات جيدة، ومن ثم فرض الحدود من خلال عواقب منطقية، كما أوضحت جونسون.

أما العواقب المنطقية، فهي تلك التي ترتبط مباشرة بالسلوك ذاته.

وقالت جونسون إن الأشخاص الذين يفهمون التربية الهادئة على أنها أحد أشكال التربية الحازمة المتفهمة، يدركون أن هناك جانبين أساسيين فيها:

الاعتراف بمشاعر الطفل وتفهّمها
تعليمه أن ليس كل طرق التعبير عن تلك المشاعر مقبولة أو مفيدة
أضاف رازينو أنه من المهم ألا نتجاوز خطوة الاعتراف بالمشاعر، لكن أيضًا ألا نغرق فيها كثيرًا.
في مرحلة معينة، يجب الانتقال من مجرد الحديث عن المشاعر إلى وضع خطة لتنظيم العواطف الصعبة، وتوضيح ما هي العواقب إذا استمر السلوك غير المقبول.

وأكد رازينو أن الأبحاث أظهرت فاعلية هذا النهج في تربية أشخاص أكثر صحة نفسية، ومرونة، ونجاحًا في الحياة.

علينا أن نكون أرحم مع الأهل
لكن بيزالا نبهت إلى وجود جانب مُرهق في أسلوب التربية الحازمة أو الهادئة، إذ أن الحفاظ على الهدوء، وتأكيد مشاعر الطفل، وشرح الحدود، وتوضيح العواقب، ثم تنفيذها بشكل منطقي، كل هذا يتطلب جهدًا كبيرًا.

وهذا الأسلوب لا يعني التساهل، بل يتطلب وعيًا مستمرًا، وطاقة نفسية، وصبرًا، وهي أمور لا تكون متاحة دومًا لكل والد أو والدة، خصوصًا تحت ضغوط الحياة اليومية.

وأضافت جونسون أن الأمر يصبح أكثر إرهاقًا عندما لا يكون الوالد قد نشأ في بيئة تربوية تتسم بالدفء والتعاطف. فتبنّي هذا النمط من التربية يتطلب مجهودًا مضاعفًا لتعلّم سلوكيات جديدة لم يتلقها الشخص في طفولته.

وبحسب بحث أجرته بيزالا، فإن الضغط المتزايد للوصول إلى "الكمال التربوي" يدفع كثيرًا من الأهل إلى الشعور بالإرهاق النفسي نتيجة محاولاتهم المفرطة في الالتزام الصارم بمبادئ التربية الهادئة.

وعلقت بيزالا قائلة إنّ "الأهل الهادئين يبذلون جهدًا كبيرًا ليحافظوا على توازنهم عاطفيًا على مدار الساعة، ما يؤدي إلى استنزافهم"، مضيفة أنّ "هذا ما توصلنا إليه في الدراسة التي نشرناها.. إنهم يشعرون بالإرهاق تمامًا".

عوض القلق المفرط بشأن الالتزام بفلسفة واحدة "صحيحة"، توصي بيزالا بالتركيز على أربعة عناصر أساسية تقول إنها ما يحتاجه كل طفل أثناء نموه:

البنية والانضباط (Structure)،
الدفء العاطفي (Warmth)،
الاعتراف بالفردية، أي أن يُنظر إلى الطفل كشخص مستقل قد تختلف احتياجاته عن البقية
نظرة بعيدة المدى للتربية، باعتبارها رحلة طويلة الأمد، وليس مجموعة من اللحظات اليومية المنعزلة
قالت بيزالا: "كل ما عدا ذلك مجرد ضجيج بالنسبة لي. إنه نمط التربية الحازمة المتفهمة، لكننا فقط نطلق عليه مسميات مختلفة".

من جهتها، أكدّت جونسون أنه لا بأس إذا أخطأ الأهل، أو فقدوا أعصابهم، أو غيّروا نهجهم التربوي مع الوقت، خاصة أن الأطفال لا يحتاجون إلى نموذج لإنسان مثالي، بل يحتاجون إلى رؤية شخص بالغ يحاول أن يكون مرجعًا إيجابيًا، يسعى إلى التعاطف، ويمارس ضبط النفس، ويتحمّل مسؤولية أخطائه.

متعلقات