الخميس-08 مايو - 04:39 م-مدينة عدن

"اجتياح: من جسد الأنثى إلى هندسة اللغة – قراءة في كينونة المعنى وتحوّلات الخطاب"

الأربعاء - 07 مايو 2025 - الساعة 11:30 م بتوقيت العاصمة عدن

عدن " عدن سيتي " كتب/ فضل صالح




"اجتياح: من جسد الأنثى إلى هندسة اللغة – قراءة في كينونة المعنى وتحوّلات الخطاب"




*توطئة*:


*في البدء، لم تكن الكلمة...*
*كان الجسد*
*وكانت الكتابة عليه*
لا تُكتب القصائد العظيمة من فراغ، بل تُولد في شقوق اللغة، على تخوم الذاكرة، ومن أتون التجربة المُعاشة والمُتخيّلة. وهكذا هو الشاعر *أحمد عبداللاه* في نصه *"اجتياح"* شاعر لا يكتب كما يُكتب الشعر عادة، بل ينهض بنصّه ككائن مستقلّ، له روح خاصة، وله لُغة تتنفّس، وتئنّ، وتُشعل.
يتميّز *أحمد عبداللاه* بفرادة قلّ نظيرها؛ إذ يمتلك ثقافة عريضة متعددة المشارب، تمتدّ من عمق التراث العربي إلى الفلسفة الغربية، ومن التصوّف الإسلامي إلى الميثولوجيا العالمية، ومن عوالم الإيروس إلى دهاليز الميتافيزيقا. هذه الثقافة، المتنوعة دون تشتّت، والعميقة دون ادّعاء، منحته قدرة على تشريح اللغة، وإعادة قولبة الصور الشعرية في بنيات جديدة، مشبعة بالدلالة، متوترة بالإيحاء.
إنه شاعر لا يستعير الألفاظ، بل يُعيد تذويبها في أتون رؤيته الخاصة، فلا تخرج من ذاكرته كما دخلت، بل تولد من جديد محمّلة بشفرات دلالية، وعناصر تناصية، تعكس تمرّده الواعي على القوالب، وإيمانه بأن الشعر ليس "قولاً جميلاً" فحسب، بل رؤية للعالم، وموقف من الكينونة، وتجريب دائم في حدود التعبير الإنساني.

وحين نقرأ "اجتياح" فإننا لا نقرأ قصيدة غزل أو رغبة، بل ندخل مع الشاعر في تجربة وجودية كثيفة، تُكتب فيها الجملة كما يُسكب الدم، وتُختبر فيها اللغة على حافة الانهيار، لتُعيد بناء نفسها بعد كل انكسار.
بهذه الفرادة، وبهذه الخلفية المعرفية، يقدّم لنا الشاعر نصًّا لا يُشبه إلا نفسه، ويفرض علينا أن نعيد النظر لا في معنى القصيدة فقط، بل في معنى أن نكون قرّاء

وعلى الرغم من تشابك خيوط "اجتياح" مع نصوصٍ سابقة، وإيحاءاته التي تُشير إلى عتبات شعرية وفكرية متعدّدة، إلا أن النص لا يقع في أسرها، ولا يذوب في ظلالها. بل على العكس، يمارس النص لعبة التناص لا بوصفه تبعيّة، بل كتحايل خلاق على المخزون الثقافي؛ إنه يستدعي الآخر لا ليحاكيه، بل ليتجاوزه، ويؤسّس مساحته الخاصة على أنقاض المشترك.

في "اجتياح"، نلمح ظلال *نزار قباني* ، ونَفَس *أدونيس* وربما ومضات من مجازات الصوفيين وجرأة الإيروس الميثولوجي، لكنّ النص يتطهّر من هذه التشابهات وهو يشتعل بها؛ يلمسها ولا يتوقف عندها، يلمّح لها دون أن يُغرق نفسه فيها. وبهذا، تصبح علاقته بالتناص علاقة استحواذ لا استسلام، وعلاقة تفكيك لا تكرار.

اللغة هنا ليست استعارة لغيرها، بل صوت مستقلّ له نَفَسه، ونبضه، وجراحه. والرؤية ليست امتدادًا لرؤيةٍ سابقة، بل انبثاقٌ فريد من ذاتٍ شاعرة تتخذ من الشعر معبرًا لاجتياح العالم، ولفتح أبواب المعنى من داخلها لا عبر مفاتيح الآخرين.

إن "اجتياح"، وإن حمل وشم الأسلاف، إلا أنه جسد لغوي متفرد، يتعطّر بعرق التجربة الخاصة، ويتحرّر من التناص بقدر ما يشتبك معه، ويترك للقارئ لذّة التمييز بين أثر السلف وصوت الحاضر.

هكذا تنفتح قصيدة *"اجتياح"* على فضاء شعريّ موار، تتداخل فيه الأصوات، وتتقاطع فيه الأزمنة، ويغدو النصّ كائناً هلاميّاً يتشكّل على إيقاع الاحتراق، والاشتهاء، والولادة المستحيلة. إنها ليست قصيدة تكتب، بل تكتب بها القصائد. ليست معزوفة وحيدة النبرة، بل مقطوعة تناصّية تتحرّك فيها أصابع الشاعر على مفاتيح التراث، والمقدّس، والفلسفي، والميثولوجي، دون أن تفقد نبرتها الخاصّة التي تكتب اللغة كما تُكتب النار على الرمل.

في نظرية التناص: النصّ لا يولد، بل يُبعث
يؤسّس هذا النصّ نفسه ضمن أفق القراءة الحداثية التي ترى أن الإبداع لا يتحقّق من فراغ، وإنما من خلال الكتابة على كتابة سابقة. هذه الفرضية التي دشّنتها *جوليا كريستيفا* متكئة على رؤى *باختين* حول تعدّد الأصوات، تؤكد أن كل نصّ هو نقطة التقاء بين نصوص أخرى، معلنة كانت أو مضمرة، مقروءة أو مرمّزة، حاضرة في المعجم أو غائبة في الوعي الباطن للكاتب.

ومن هذا المنظور، تغدو "اجتياح" قصيدة متناصة لا على مستوى الجملة فقط، بل على مستوى البنية التخيلية والرمزية أيضاً. هي نصّ يتغذّى على نصوص أخرى، ثم يرفضها، ويُعيد تشكيلها، وينقضها أحياناً، ليولد منها على طريقته.

*التناصّ عندما تكتشف اللغة جسدها*
في عبارات مثل:
*"لوني يمتصّ وجهك"*
*"أرتدي جسدي المهمل"*
*"تشكلني مرة ثانية، شظايا هلاكي"*
نتلمّس تراكبًا بين الشعر الإيروسي عند *نزار قباني* وجمالية الجسد كما صوّرها المتصوّفة، حيث يتحوّل الجسد من كائن بيولوجي إلى نصّ ميتافيزيقيّ. الجسد هنا لا يُلمس فقط، بل يُقرأ، وتتكسّر مفاصله تحت سلطة الحضور الأنثوي الساحق. الجسد الذكري يتلاشى كي يُعاد تشكيله، لا بل يُلغى ليُولد من جديد.
هذا التناص لا يأخذ شكل المحاكاة، بل تفكيك النموذج *القباني* والتمرد عليه. فالأنثى لم تعد حبيبة جميلة، بل قوة فيزيائية مهيبة، كالمجرة، لا تُحضن بل تبتلع، لا تُكتب بل تكتبك. إنّها الوجه الآخر للوجود، والصورة الحقيقية للعدم المتلذّذ.

*تناصّ مقدّس: من وحي النصوص السماوية إلى جسد الكائن*
حين يقول:
*"تأوي المجرّات إلى بقعة مائلة*
*وتخفض راياتها الحلمات"*
يمنح الجسد الأنثوي صفات كونية؛ فهو مكان "تأوي" إليه المجرّات، ومجال يُخفض له العلم، فيتناصّ الجسد مع الكون، ويتحوّل من مدرك حسّي إلى ميتافيزيقا شعرية. الحلمات، التي طالما وُظّفت في القصائد الغزلية كرمز حسّي، تُعاد كتابتها هنا كـ"رايات"، في مفارقة تزاوج بين قاموس الحرب والجنس، فيتحول الجسد إلى ساحة معركة، واللذة إلى راية تُرفع حينًا وتُخفض حينًا آخر.

*تناصّ فلسفي: الكينونة بوصفها معركة*
*"سأحتاج عامًا لأرتاح بعدك*
*بعد معركة فاصلة"*
يستدعي هذا السطر إلى منطقة فلسفية، تتقاطع مع تصوّرات *سارتر* حول "الجحيم هو الآخر" وتستدعي الكينونة القلقة عند *هايدغر* ... الحبيبة هنا ليست موضوعًا للرغبة، بل سؤالًا وجوديًّا قاسيًا يضع الذات في مواجهة انكساراتها. وبعد هذا "الاجتياح"، لا يبقى من الذات شيء إلا التعب، والانكسار، والرغبة في الرحيل.

إنّ هذه اللغة لا تمارس الغزل، بل تجعل من العلاقة الإنسانية اختبارًا وجوديًا، فـ"المعركة الفاصلة" ليست بين جسدين، بل بين كينونتين. وهذا التناص الفلسفي يمنح النصّ بعدًا ميتافيزيقيًا يجعل من "الاشتهاء" استعارة للانصهار والانمحاء.

*تناصّ أسطوري: الأنثى بين الخراب والبعث* :
*"تشكلني مرة ثانية"*
بهذا السطر القصير، يُحيل الشاعر إلى الإرث الأسطوري حيث الأنثى لا تُشتهى فقط، بل تُعيد التشكيل. نكاد نرى هنا *"إيزيس"* تُعيد تركيب جسد *"أوزوريس"* أو *"عشتار"* تتوغّل في مملكة الموت وتعود حاملةً سرّ الحياة.

الأنثى في "اجتياح" هي تشكل وتمدر، من الألف إلى الياء، وهي الكائن الذي يحيل الرجل إلى جنين، ويلقيه في "غيمة حائرة" لا يعلم مستقرّه. بهذا المعنى، تمارس القصيدة تناصًّا أنثروبولوجيًا مع الأسطورة، حيث لا يُحتفى بالجمال بل تُستدعى الهاوية.

ليست "اجتياح" قصيدة عن الحب، بل عن ما بعد الحب، عن العدم الذي يلي العناق، والتمزّق الذي يولّده الارتواء. نصّ متعدّد المشارب، ممتدّ الظلال، ينهل من بحور لا حصر لها، ثمّ يعيد صهرها في لغته الخاصة، وصوره الباذخة.

لقد مارست القصيدة تناصّها بذكاء، فاستدعت الموروث دون أن تبتلعه، واقترضت من المقدّس دون أن تتهكّم، وتشظّت بين الفلسفة والأسطورة، لا لتستعرض ثقافتها، بل لتُفجّر سؤال الكينونة في قلب جسد محموم.
وإذا كان التناصّ قديمًا يُعدّ مجرّد حضور نصّ داخل نصّ، فإن "اجتياح" تعلّمنا أنّ التناصّ الحقيقي هو أن تجعل النصوص الأخرى تحترق في نارك الخاصة... دون أن تفقد ملامحها تمامًا.

متعلقات