اخبار العاصمة عدن استقالة بغصة وقهر!..
الأحد-04 مايو - 08:52 ص-مدينة عدن

لصنعاء مقامات وأسفار: مقاربة سردية في رمزية الذات وتاريخ القهر

السبت - 03 مايو 2025 - الساعة 10:57 م بتوقيت العاصمة عدن

عدن " عدن سيتي " كتب/ فضل صالح





في قصيدة "لصنعاء مقامات وأسفار" من ديوان *نورا للشاعر أحمد عبداللاه*
تنهض المدينة، لا كحيز جغرافي، بل كرمزٍ يتشكل في المخيلة الشعرية بوصفه حقلًا مشحونًا بالتوترات، ومسرحًا للتاريخ المتعثر، ومرآةً لجراح الذات الجنوبية. يتلبّس النص بنية سردية تتوسل الشعر، وتفكك المألوف، وتعيد كتابة المدينة لا بوصفها عاصمة سياسية أو مركزًا للسلطة، بل ككائن حي تتنازعه المتناقضات: الحلم والخذلان، المركز والهامش، الذاكرة والقهر.

القصيدة تتحرك على إيقاع لازمة "في صنعاء"، والتي لا تمثل تكرارًا بلاغيًا بقدر ما تشكّل بنية طقسية، تُستدعى بها المدينة لا لتُحتفى، بل لتُساءل. كل تكرار هو استدعاء للوجع، كل مقطع مقام من مقامات الخيبة، وكل لازمة جرس سردي يفتح بابًا على مدينة لا تكتمل. تمارس القصيدة بهذا البناء نوعًا من التفكيك الشعري للتاريخ الرسمي، وتعيد رسم معالم السلطة المركزية بوصفها سردية تهيمن لا تفسّر، تقهر لا تحاور، تدعي الشرعية وهي غارقة في طفولة تاريخية: "فالتاريخ في صنعاء لم يزل طفلاً / وماكنة الزمان تتعلم الأرقام".

هذه الصورة التي تُشخصن التاريخ والزمن في هيئة كائنات غير ناضجة، تكشف عن انكسار في الوعي الجمعي، وانحباس في دورة التحول السياسي والحضاري. لا يتحدث النص عن صنعاء من خارجها، بل من عمقها، من جراحها التي تختزل جراح الجنوب كله، في لحظة شعرية تختبر الذاكرة ولا تسكنها، وتُمارس السؤال أكثر مما تُدلي بالإجابات. "الناس تكبر في الأزقة وتموت قبل الوعد الرسمي"؛ هذه العبارة تُطلق صرخة وجودية ضد وعود مؤجلة، ومؤسسات تُبنى على خيبات، ومجتمع يُستهلك فيه الإنسان قبل أن يكتمل حُلمه.

يمارس الشاعر في هذا النص لعبة اللغة والانزياح، فالصور تنبثق من رحم مفارقة عميقة: "تجدوِل الساحات"، "غليظ اللحن"، "الأمل العضال"، "العشب الرهيف"، "أرصفة المسير تعود إلى بدايتها"، كل ذلك يُحيل إلى رؤية شعرية محكومة بإيقاع داخلي مشوب بالحزن والسخرية، والخطاب نفسه يعبر عن تمرّد لا يحتفي، بل يتقدّم بأسئلة تؤرق. حتى الزامل، وهو جزء من تراث الصوت الجمعي، ينقلب هنا إلى أداة قمع رمزي، تغلّفه القصيدة بنبرة مريرة تشير إلى "غِلظة اللحن"، وإلى تحوّل أدوات الفخر إلى وسائط ترويج للهيمنة.

تغدو صنعاء، في هذا التشكيل، مدينة تتأرجح بين حضورٍ رمزي وواقع متهالك. ليست فقط عاصمة سياسية، بل فضاء يتقاطع فيه الجوع بالحنين، وتمتزج فيه أشكال القمع بالمسرّات المؤجلة. في كل منعطف سردي، يتثاقل التاريخ: "كلما انعطف تثاقل وزنه فوق الخطى / ويعود متنقلاً إلى أوكاره". الزمن هنا لا يسير، بل يدور في حلقة مغلقة، كأنما القصيدة نفسها تعاني اختناقًا زمنيًا، تجعلها لا تكتمل إلا بعد أن تترك قارئها في العراء، يبحث في ثنايا النص عن إجابة لا تأتي.

الصراع في النص يتعدى السياسي إلى الوجودي، فالمدينة صارت فضاءً للخوف: "جهة يمرّ الخوف من أرجائها". ويصير الأمل ذاته مريضًا: "الأمل العضال". هناك مفارقة مؤلمة بين ما يُنادى به وما يُمارس، بين "الخطاب الحر الذي يتقد بين صحيفتين"، وبين واقع سياسي يخنق الحرية، ويدفعها إلى الهامش.

البنية الأسلوبية تعتمد على أفعال مضارعة تدفع النص نحو الحركية الظاهرة، لكنها حركية دائرية، لا تفضي إلى نمو، بل إلى جفاف: "ينمو على مهل، ويجف في ملح الفصول". تتكرر التراكيب المفارقة، التي تصنع توترًا داخليًا في النص، وتفتح المجال للتأويل المتعدد. يستخدم الشاعر مفردات تتراوح بين الواقع والحلم، بين الطبيعة والمعمار السياسي، وبين الذكرى والنبوءة، ليبني قصيدته بوصفها مشروع مساءلة لا مشروع تخليد.

في مقطع آخر، يُصوَّر التاريخ كسلطة قمعية متخفية: "يتمترس التاريخ خلف عروشه / ويعيد تسمية المراحل / يروض الجوع من جهة / ومن جهة يلوّح بالمقامات". إنه تاريخ لا يحرر بل يهيمن، لا يعترف بالضحايا، بل يعيد تشكيل الذكرى وفق سرديات السلطة، ويستبدل الخبز بالشعارات، والمأساة بالرمز.

رغم غياب الوزن الخليلي، تتميز القصيدة بإيقاع داخلي متماسك، قائم على التكرار، والتقطيع، وتوزيع الجمل على نحو يحاكي التوتر النفسي والوجودي. الجملة الشعرية لا تكتمل إلا بالتعليق، والوقفات تخلق فضاءات من التأمل. يتبدى النص بوصفه كائنًا مفتوحًا على احتمالات القراءة، لا يقدّم المعنى، بل يستدعي القارئ لخلقه. وهنا تتجلّى شعرية ما بعد الحداثة بكل خصائصها: *التفكيك، والتناص، وتوتر المعنى، والمفردة المتفجرة بدلالاتها*.

عدن، وإن لم تُذكر صراحة، تسكن خلفية النص كضدّ لصنعاء، كظلّ للكرامة المهدورة، ومرآة لجراح الجنوب الذي لا يصرخ، بل يكتب. لا يُمارس النص تقسيمًا جغرافيًا، بل إعادة تشكيل للخريطة الرمزية، حيث يغدو الجنوب تأويلاً للحقيقة، لا مكانًا فقط. وحين ينتهي النص، لا يغلق الدائرة، بل يتركها مفتوحة: "ربما... أو ربما... وربما". إنها نهاية لا نهاية، أشبه بفراغ شعري مكتظ بالممكن، ومدينة معلّقة بين أن تكون وما لا تُراد أن تكون.

بهذا المعنى، تُعيد قصيدة "لصنعاء مقامات وأسفار" صياغة المدينة، لا لتمجيدها، بل لتحريرها من خطابها السائد، وتحرير الذات من وهم التاريخ. هي ليست نصًا عن صنعاء فحسب، بل نص عن اليمن، عن الجنوب، عن الإنسان الذي يكتب لا لينجو، بل ليسأل: إلى أين؟ وكيف؟ ولماذا؟

متعلقات