انشطار الذات وتحوّلات المكان: قراءةفي شعريّة أحمد عبداللاه

الخميس - 01 مايو 2025 - الساعة 10:20 م بتوقيت العاصمة عدن

عدن " عدن سيتي " كتب/ فضل صالح




انشطار الذات وتحوّلات المكان: قراءةفي شعريّة أحمد عبداللاه

*مقدمة* :
إن تجربة الشاعر أحمد عبداللاه تمثّل حالة شعرية خاصة لا يمكن قراءتها بسهولة من سطح اللغة، لأنها مشغولة بما هو أعمق من المباشر، ومُحمَّلة بإشارات تتجاوز ظاهر اللفظ إلى فضاء من المجاز المركَّب، والصورة المتحولة، والرمز المتشظي. في شعره، لا تُمنح اللغة للقارئ، بل تتوارى خلف كثافة شعورية تتطلّب قارئًا مشاركًا، يمتلك أدوات التأويل، وحساسية التلقي، ووعياً معرفيًا يُدرك أن ما يقال هو أدنى مما يُقصد.

إن قراءة شعر أحمد عبداللاه ليست تحليلًا لمعانٍ جاهزة، بل مقاربة تأويلية لما وراء اللغة؛ لمكامن الذات وهي تتكلم من ظلالها، ولمكانٍ ينطق لا بحدوده الجغرافية بل بانكسارات الذاكرة. وهذه المقاربة التي نقدمها ليست سوى محاولة جزئية لملامسة أفق واسع من الوعي المتجذّر في تجربة الشاعر، الذي لا يكتب من فراغ اللحظة، بل من خزان ثقافي عميق يمزج بين التراث الوطني، والوجدان القومي العربي، والتأملات الكونية المستمدة من الثقافة الإنسانية العالمية.

فالشاعر هنا ليس ابن بيئته فحسب، بل هو حامل لهاجس أوسع يتقاطع فيه الانتماء إلى المكان مع الحنين إلى العدل الوجودي، ويتجلّى فيه الحس القومي جنبًا إلى جنب مع التجربة الفردية المتفردة. إننا بإزاء نصوص تتجاوز المعنى الواحد، وتتعدد فيها مستويات القراءة، حتى ليغدو كل بيت شعري نقطة التقاء بين صدمة شعورية، وإحالة ثقافية، ودهشة جمالية.

من هنا تأتي هذه القراءة
*انشطار الذات وتحوّلات المكان في شعريّة أحمد عبداللاه* فالشاعر *أحمد عبداللاه* يعدّ من الأصوات الشعرية التي تمارس كتابة الذات من داخل مجازاتها، لا على هامشها. فهو لا يعبّر عن حالته الوجودية تعبيرًا مباشرًا، بل يخلق لها أماكن داخل النص، تنمو وتتحوّل وتتمزق تمامًا كما الذات التي تحملها.

إن ثقافة الشاعر العميقة، ووعيه بآليات الصورة الشعرية، وانحيازه للمجاز المفتوح بدل المباشر، تجعله من القلائل الذين لا يكتبون عن المكان، بل يكتبون به، حيث يتحوّل المكان إلى أداة للبوح، مرآة للداخل، وجسد رمزي يتنفس انفعالات الشاعر، ويعكس تشظّي الروح وتوتر المعنى.

من خلال نصّيه "رحيل" و"همس شتوي لعدن"، تتبدى صورة مزدوجة للمكان: مرةً بوصفه ذاكرة مشحونة بالعاطفة، ومرةً ككيان عدمي تتناثر فيه الذات، وتفقد صوتها وسط ركام الاغتراب والخذلان. وضمن هذا المسار، يصبح تحليل المكان مدخلًا أساسيًا لفهم تشكّل الوعي الشعري، والتقاط تذبذبات الوجدان. من هنا، تقتضي القراءة توظيف المنهج السيكولوجي لكشف البنية الداخلية للذات، والمنهج السيميائي لتحليل الرموز والعلامات، مع الاستئناس بجمالية التلقي التي تجعل من القارئ مشاركًا في إنتاج المعنى.

1. *عدن: من المكان الخارجي إلى الذات الداخلية*

في "همس شتوي لعدن" تستدعي القصيدة مدينة الشاعر —عدن— لا كموقع جغرافي، بل ككيان حي يسكن في ذاكرة الشاعر ويتشكّل في وجدانه. المدينة هنا ليست خلفية للأحداث، بل بطلة خفية للنص، تحمل ملامح الأم، والحبيبة، والوطن، والطفولة، وحتى الموت. *يقول الشاعر:*
"وأشتكي: يا قلب أمي ليتني طفل
أقبل ما أراه على يديك وأجن من فرح بلا سبب"
إن استعارة "قلب الأم" في هذا السياق تعيد تشكيل المدينة بوصفها رحمًا وجوديًا، وكأن عدن هي الأم المفقودة التي لم تعد تحتضن ذات الشاعر، ما يحيل إلى تمزق عاطفي عميق. وفق التحليل السيكولوجي، فإن هذا الحنين إلى حالة الطفولة والبراءة هو ميكانزم دفاعي تحتمي به الذات حين تفقد استقرارها في الحاضر.
في المقابل، يبرز "الشتاء" في النص كدلالة زمنية، لكنه يتجاوز البعد المناخي ليُصبح زمنًا للتكوين والانكسار معًا:
"ليت الشتاء يظل في وضع البداية!"

الشتاء هنا رمز البداية التي لم تكتمل، كما لو أن الزمن ذاته خان الشاعر. وهو ما يتوافق مع منطق السيميائية التي ترى في العلامة (الشتاء، عدن، القمر، صيرة) نظامًا رمزيًا مفتوحًا، يحمل أكثر مما يقول، ويُبقي المعنى معلّقًا في أفق التأويل.

2. *ساحل أبين والمرايا: المكان كمنفى داخلي*

في نص "رحيل"، يغدو المكان أكثر توترًا، بل يتحوّل إلى جبهة انفصال، لا بين الشاعر ومحيطه فحسب، بل بينه وبين ذاته:
"على ساحل أبين
تركت دمي وسلاحي"
هنا، لا يُستدعى "الساحل" كفضاء جميل أو طبيعي، بل كعتبة خروج، وكأن الشاعر يودّع ما تبقّى من انتمائه.
يُصبح "ساحل أبين" مكانًا للدم المسكوب، والسلاح المتروك، أي رمزًا للتضحية، والانفصال، وربما العجز.

وفق الرؤية السيكولوجية، فإن الشاعر يتماهى مع هذا المكان المتروك، بوصفه ذاته المنكسرة.
وفي سطر آخر:
"وكل المرايا"
"المرايا"، في ضوء التأويل السيميائي، لا تكتفي بعكس الصورة، بل تُنتج وعيًا بها. غير أن ترك "كل المرايا" يدل على رغبة لا واعية في الهروب من الذات، في محاولة للنجاة من أثر النظر إلى هشاشتها. هنا، يتحوّل المكان من عنصر خارجي إلى كيان داخلي – مرآة النفس.

3. *مساءات النصّ: الزمان يتأنث ويتواطأ*

في صورة عميقة:
"والمساءات تدخل في صمتها كالجواري"
يُقدَّم الزمان في صورة أنثوية خاضعة، كأن الزمان لا يقف مع الشاعر، بل يستسلم لخذلانه.
المكان والزمان معًا يصبحان طرفًا في المأساة، كأنهما شهود صامتون على تفكك الذات. إن هذا التصوير يُغني التحليل النفسي للنص، ويُبرز كيف أن الأمكنة ليست جمادات في قصائد عبداللاه، بل كائنات حية تتواطأ أو تتخلى، تسند الذات أو تكسرها.

4. *الذات تُنثَر: تمثيل الرحيل والتمزق*

"وتنثر عمري هناك شظايا"
الشاعر لا يقول "أموت"، بل يُنثَر، أي أن فعل الانكسار لا يتم بانفجار صاخب، بل بتبعثر هادئ. "هناك" تشير إلى مكان لم يُحدَّد، لكنها في وعي المتلقي تُصبح كل الأماكن التي طُعن فيها الحلم، وانكسر فيها القلب. وبهذا، تنجح القصيدة في إشراك القارئ – عبر جمالية التلقي – في وجع الشاعر، ليجد المتلقي نفسه ممزقًا مثله، موزعًا على الأماكن، مكسورًا في مرآة الشعر.

*ختاما، المكان كقصيدة، والشاعر كخرائط شعورية*

إن أحمد عبداللاه لا يكتب نصوصًا عن المكان، بل يكتب نصوصًا مكانية، أي نصوصًا تتّخذ من المكان نقطة توتّر ومركز إشعاع. وفي "رحيل" و"همس شتوي لعدن"، تتجلى موهبة الشاعر في تحويل المكان إلى نص رمزي، مشبع بالدلالات النفسية والوجدانية. فعدن ليست مدينة، بل ذاكرة، وحضن، ومنفى. وساحل أبين ليس شاطئًا، بل خطًا حدوديًا بين الأمل والانكسار.
من خلال المنهجين السيكولوجي والسيميائي، تتضح أنساق الذات في علاقتها بالمكان: مرةً كمصدر للطمأنينة، وأخرى كمجال للخذلان. أما القارئ، فهو ليس متلقيًا سلبيًا، بل مشاركٌ شعوري وتأويلي، يُعيد بناء المعنى، ويجد في أماكن الشاعر أمكنته الخاصة.

متعلقات