ٱراء واتجاهات


السياسة تقتات من جوع الناس. والإنسانية تُذبح في طوابير الرواتب

الخميس - 25 سبتمبر 2025 - الساعة 09:20 ص

الكاتب: وضاح قحطان الحريري - ارشيف الكاتب





من شوارع عدن ولحج وأبين والضالع لا ترى ازدحام الأسواق كما كان من قبل، بل صمت ثقيل يخيّم على الباعة الذين يمدون أبصارهم نحو جيوب فارغة، كأنك تمشي في مدينة خرجت من حرب لم تنتهِ بعد. وجوه متعبة تسأل ذات السؤال: إلى متى ندفع الثمن بلا مرتبات، ونحن ندخل الشهر الخامس من دون أن يتسلم المعلم أو العسكري أو الموظف حقه البسيط في الحياة؟

مواطن من أبين وقف أمامي وقال بلهجة منكسرة: “أربعة أشهر وأنا بلا راتب، لم أعد أعرف كيف أشرح لأطفالي أن وطنهم لم يعد يكفلهم، كيف أقنعهم أن اللقمة أصبحت أصعب من أي وقت مضى؟” كلمات خرجت من قلبه، لكنها لامست قلوب كل من يسمعها، فهي ليست حكاية فرد بل حكاية وطن بأكمله.
وفي عدن تتكرر الصورة بمشهد أكثر وجعًا، المعلمة أمل تحدثت وهي تمسك حقيبتها البالية: “أردد هذه الكلمات وقلبي يعتصره الألم، كيف أشرح لطلابي درسًا عن الكرامة وأنا لا أملك ما أسد به رمق أطفالي؟ كيف أعلّم أن المستقبل ممكن بينما أنا أسيرة انتظار راتب لا يأتي؟” كانت كلماتها مثل صفعة على وجه من لا يزال يظن أن المعلم قادر على الصبر بلا مقابل.

الناس هنا لم يعودوا يصدقون تبريرات البنك ولا أعذار الحكومة، فالكل يعلم أن هناك من يتقاضى مخصصاته بالدولار في الخارج بينما يترك العسكري والمعلم والموظف في الداخل يواجه مصيره بالجوع. مسؤول رفيع في عدن كشف عن إصرار قيادة المجلس الرئاسي على استمرار صرف الإعاشات بالخارج، وربطها بصرف مرتبات الداخل، وكأن حياة الناس ورقة في لعبة سياسية خفية. أي منطق هذا الذي يجعل لقمة المواطن مرتبطة بصراعات لا تعنيه؟
المجلس الرئاسي مشغول بخطابات وقرارات متناثرة، لكن الشارع الجنوبي لم يعد يحتمل المزيد من المماطلة. الناس باتت على يقين أن ما يحدث هو تجويع منظم، وأن الصبر على هذا الوضع لن يطول. المماطلة اليوم ستنتهي غدًا بانفجار لا يرحم، انتفاضة ستأكل كل من يقف وراء حرمان الناس من حقهم في الحياة الكريمة.

الجنوبي اليوم لم يعد يطالب بالكثير، لم يعد يبحث عن رفاهية ولا وعود سياسية كبرى، بل عن راتب يسد رمق أطفاله ويعيد له شيئًا من كرامته. لكن ما يجري يكشف أن السياسة هنا تقتات من جوع الناس، وأن الإنسانية تُذبح يوميًا في طوابير المرتبات المؤجلة، وأن من يمسك بالقرار لم يعد يرى في المواطن سوى ورقة ضغط في لعبة أكبر من حجم معاناته . الصورة باتت أوضح من أي وقت مضى: الجنوب يقترب من لحظة الانفجار، لأن الكرامة حين تُسلب لا يبقى بعدها إلا الشارع، والشارع حين يصرخ لن يرحم أحدًا.