السبت-27 سبتمبر - 09:53 م-مدينة عدن

ٱراء واتجاهات


تعز والبلد المنكوب ..

الأحد - 21 سبتمبر 2025 - الساعة 05:42 م

الكاتب: د أحمد عبداللاه . - ارشيف الكاتب




كي تتلاءم مع تنوعها وفقاً لقوانين الفيزياء اليمانية، تنقسم تعز على جبهات ليست من اختراعها.. وتلك آية من عجائب البلد المنكوب، حيث تصبح المدن المسالمة -أكثر من غيرها- مزروعة بالخوف.

ذات مرة سمعت الشهيد جار الله عمر يقول : "تعز، في تنوعها، هي موديل يمن المستقبل، فمنها يأتي قادة الأحزاب الأكاديميون والمثقفون والرأسماليون والعمال والفلاحون وأصحاب المهن المختلفة… الخ"، وقلت له حينها: ومنها يأتي الأصدقاء في مختلف المراحل العمرية منذ المدرسة حتى الجامعة، وفي العمل. هناك أصدقاء "تعزيون" تتنوع صفاتهم وقدراتهم لكنهم يحملون نكهة مميزة لا تدري بالضبط ماهي.

تعز كوكب نابت في محيط من "ديموغرافيات" الجنوب والشمال المتنوعة نسبياً وفقاً لبيئتها وفطرتها وثقافاتها المحلية. وظلت تاريخياً وما تزال موصولة بـ”روابط الحياة”
مع عدن منذ نشأة الأخيرة كمدينة حديثة… وكانت من أهم المصادر البشرية التي أكسبت عدن حيوية ودينامية.

وفي المقابل مثلت عدن بروافدها المتنوعة، في مرحلة ما، حلم السائرين إليها، دون أن تتمثل في وعيهم بصفة مشخّصة دينياً: "عدن التوراتية" أو "عدن مابين النهرين الإنجيلية"، أو حتى "جنة دلمون" المفقودة... بل عدن الجنوبية، التي لا تجري من تحتها الأنهار، لكن بيئتها المدنية المنفتحة ذوبت العالم المتنوع بداخلها، قبل أن تفهم الأجيال ماذا تعني الهوية الجامعة وما هي قومية القوميات أو المدن المتعددة الثقافات، وبالطبع قبل أن يعرف العرب ثوراتهم التحررية التي حملت على ظهرها أحلام موجعة وانعطفت انعطافات بلا حد ولا عد حتى فقدت قيمها الحقيقية في "بورصات" الأسواق السياسية الحالية.

لطالما جسدت تعز بغرائزها التاريخية مادة الوعي الجامع الموحد منذ زمن مبكر، مدفوعة بفطرة الخمسينات من القرن الماضي، الخالية من شوائب المراحل اللاحقة التي هتكت عذرية البدايات وكشطت رخام الصباحات الحالمة. ولهذا ربما ما تعانيه تعز اليوم، إلى جانب نزيفها المستمر، هو أن ترى مشروع الوحدة وقد نحتت منه أزاميل القوى المتسلطة إلهاً بمخالب وحش مقدس يقتات على دماء المدن المستضعفة، وأصبحت عدن توأم مكلوم، لم يعد شغف السفر إليها مغنّى، ومرجو أن يكون "مسير يوم".

ومع كل المصائب النازلة على تعز وعلى البلاد والعباد يظل الإحساس طاغ في اللاوعي، بأنها ما تزال "ليلك مولود" يمنح "اليمن المعتلّة" أنفاساً جديدة، وهي بالفعل كذلك، رغم المشاهد المؤلمة التي فصّلت المدينة على مقاسات الصراعات بكل قواها وأحزابها وطوائفها ومشاريعها، فهي باقية مثلما عرفها التاريخ.. وستمر من هذا الزمن المنكود بعد أن تدفع الثمن بإسمها ونيابة عن كل الإخوة والرفاق والحِجّاج، " كما قسّمهم الفقيد عمر الجاوي".

وتلك خاصية فريدة في اعتزاز الناس "بتعزهم" الكبيرة بكل مخزونها التاريخي والبشري وبكل مخاضاتها الحديثة وآلامها، ومساهماتها في مسيرة الواقع منذ ما قبل الفجر التأسيسي الحديث للدولتين في عدن وفي صنعاء.

تعز مدينة الوسط وبلد السكان المترامي النهايات والألوان تتنوع في وحدتها وتتوحد في تنوعها، لكنها على خلفية ذلك وحين تغيب الدولة الحاضنة في وقت الأزمات الكبرى تدفع أثماناً باهظة، فتنال منها المشاريع والقوى والأحزاب، وكلٌّ يضع بوصلته على ناصية المدينة وينثر بواريده على شوارعها وفوق تبابها لتتحول إلى نزيف قلما ينتبه له الآخرون كما ينبغي. وبينما تغيب الجوهرة الحالمة في وحول الصراعات المتعددة.. تنشغل النخب على الشاشات وفي منصات الهذيان بالحروب الإعلامية وبالسرديات الطنانة.

احمد عبد اللاه