ٱراء واتجاهات


يا شام عاد الصيف

الجمعة - 19 سبتمبر 2025 - الساعة 07:29 ص

الكاتب: د أحمد عبداللاه. . - ارشيف الكاتب






كأنّ سوريا اليوم مرآة متكسّرة؛ كل شظية منها تعكس وجهًا من وجوه تاريخها، لكن دون أن يكتمل المشهد. الصيف عاد غير أنّ الشام لا تعود، و لم تعد روح القصيدة الكاملة، لأن المدن قد تحوّلت إلى مقاطع يتيمة تتناوب على إنشادها رياح المآسي وأطلال الخراب. وأهم ما تفعله هو أن تقاوم التقسيم في واقع ميداني شديد القسوة.

جنوب دمشق منزوع السلاح الثقيل، فيما تُثبّت “إسرائيل” حضورها على نقاط في جبل الشيخ وتوسع من المنطقة العازلة داخل الأراضي السورية بذريعة “الأمن”. وكل ما يبدو إجراء ميداني أحادي قد يتحوّل إلى تسوية غامضة بين سوريا و"إسرائيل".
لكن “إسرائيل”، على طريقتها المألوفة، لا تكتفي بالسطور المعلنة، بل ترسم مسارات و خرائط ظِلّ تنتقص من السيادة السورية، وتترك أبوابًا مشرعة على تدخل دائم كلما اهتزّت المناطق القريبة بأحداث أمنية.

شمال شرق سوريا (قسديّ الولاء) حتى وان فكر ترامب أن يحصل على حصة من النفط أو الغاز السوري فإنه لا يقايض بحلفائه في منطقة شديدة الاهمية.

و في مناطق الساحل السوري ينكفئ العلويون على أنفسهم بانتظار مرور الارتدادات الثقيلة لسقوط نظام الأسد.


سوريا بلد الأعراق والثقافات وكذلك بلد القومية العربية والدكتاتورية الشرسة.. تعيش الآن تحت حكم المجاهدين الذين اقتحموا المسرح السياسي بقمصان أنيقة ولحى مغسولة من معارك "الربيع" بزعامة الرئيس احمد الشرع الذي يجيد القتال كما يجيد الخطابة السياسية و رقصة الدبكة السورية بتقنيّاتها التاريخية والتي لم تعد ضمن الطقوس الدينية للكنعانيين.


لعلنا إذن أمام نموذج إسلامي (هايبرد) لا (حسن الساعاتي) بالأصول العشرين وأركان البيعة، ولا (أردوغاني) بطربوش "العلمانية الإسلامية"، حسب المصطلحات المدمجة، وإنما سوري تمازجت فيه العناوين حتى استقر على جبل المزّة في قصر الشعب، ليمثل مشروع دولة صاعدة تجر خلفها تاريخ سوريا الحديث والقديم.


كل شيء ملتبس على أرض سوريا، التي كانت أهم ميزاتها أنها تمنح العربي حق الزيارة والمرور من دون تراخيص مسبقة، وترفع شعار القومية العربية. وظلت تحت حكم عائلي امتد نصف قرن من الزمان دون أن يتزحزح، و دون ملل أو كلل أو تغيير. ذات الوجوه والخطاب، كأنهم تماثيل رخامية من آلهة الإغريق.

سوريا اليوم بين أطماع الكبار، وهي، وإن ظلّت اسمًا ثابتًا على خرائط الأمم، فإن روحها السيادية مرهونة لزمن قادم، إن قدّر لها أن تستعيد عافيتها. فالاستقلال ليس قرارًا سياسيًا يُعلن، بل مسيرة طويلة تتعثر بين أنقاض الحرب وأصداء التدخلات.
لا جيش وطني حر يمكن أن يولد من هذا التشظي، ولا مؤسسات دستورية قادرة على حيازة الحصانة الداخلية والخارجية. تلك أفاق لا تُدرك إلا بعد رحلة قاسية من استتباب الحال، رحلة لا تقاس بالسنوات وإنما بعدد الألغام التي تزحف الشام عليها دون ان تنفجر مرة أخرى.

ومن هنا يمكن القول بأن سوريا نموذج مؤلم لحالة العرب في كل ربوع الوطن الكبير (ربوع الوطن الكبير: تعلمناه في المدارس الابتدائية) الذي يعيش خيارات وجودية صعبة.
لهذا يمكن للعرب أن يرسموا ألف لوحة لأوطانهم، غير أن اللوحة الأصدق ستظل تجريدية: جسدٌ عربي كبير، يضع كفّيه على جانبي رأسه، لا لينتبه إلى رهبة الأفق المتموج ويصرخ كما في لوحة إدفارد مونش، بل ليظل يغرق في صمت كثيف ينوء بالذاكرة والتاريخ.
وفي اللحظة التي يحقق فيها العالم قفزات هائلة في ميادين المعرفة والتكنولوجيا، لتتبدل بها صور الحياة ومعايير القوة كما لم تعرف البشرية من قبل، يبقى العرب أسرى إيقاعٍ بطيء مثقلين بالماضي، وكأنهم خارج حركة التاريخ.
احمد عبد اللاه