الثلاثاء-26 أغسطس - 08:42 م-مدينة عدن

ٱراء واتجاهات


المسافة الفاصلة بين السياسي والثقافي

الإثنين - 04 أغسطس 2025 - الساعة 09:01 م

الكاتب: صالح بامقيشم - ارشيف الكاتب




تكمن العلاقة الجدلية بين الشأن الثقافي والسياسي في أن هناك بعدين يتماهيان بنفس القدر الذي يتفاصلان فيه. إذا كانت السياسة هي فن الحكمة في الإدارة، إلا أنها في كثير من الحالات قد تبتعد عن هذا التعريف وقد تكون ترجمة لسياسة خائبة وفاشلة ومدمرة. لكن السياسي الشجاع هو ذاته السياسي الذي يتصف بالحكمة ويتعامل وفق مرئيات المعطى الراهن ويستشرف المستقبل. لذلك تحمل السياسة قدرًا من البراغماتية والجرأة في نفس الوقت، على قاعدة الاستفادة من تجارب الماضي بإيجابية. وهنا يقترب السياسي من المعطى الثقافي.

والثقافي في هذا الصدد لا يمكن تعريفه بشكل إجرائي نمطي، ولكن يمكن القول بشكل عام أنها معطيات تصب في مجرى إعادة إنتاج القيم المادية والروحية للناس. لذلك قد يتشارك فيها الكافة، غير أن النخبة المثقفة (الأنتليجنسيا) هي التي تنتمي إلى مستوى الثقافة العالمة السابرة لأغوار التراث والتاريخ والفن وعلم الاجتماع، وتحلل المعطيات السياسية بالضرورة.

لذا نحن نتكلم عن مستويين يتناقضان لكنهما يتكاملان في أفق آخر. في الحالة اليمنية، لا يمكن فصل هذا الملف عما ساد عليه الأمر في المنطقة العربية، حيث المشاريع السياسية تأثرت بالرؤى والاطروحات في البيئة الأوروبية، سواء التيار القومي الأوروبي أو اليسار الأوروبي. وقد دل على هذا أن مفردات ومصطلحات خام استوردت على عجل من الرؤى الأوروبية لتزرع في التربة العربية.

وبالمناسبة، فإن مركزية أوروبا في الثقافة العربية ليست جديدة، فكثير من جولات الجدل والآراء في التراث العربي استندت إلى منطق أرسطو في علم الكلام مثلًا، وهو منطق يعتمد على البعد الشكلي الذي يجعل العقل هو المرجع الأساس في وضع التراتبية والقواعد.

غالبًا كان البعد السياسي في حالة صدام مع الثقافي في الحالة اليمنية، فالعقل السياسي كان يضع بعين الاعتبار كل ما هو راهن وكل ما هو مرتبط بالاكراهات الآنية المرحلية، بينما كان الثقافي يتطلع إلى المستقبل، مسافرًا بخياله نحو عالم مثالي طوباوي.

وهذا حدث شمالًا وجنوبًا، فقد كان المثقف السياسي يتوق إلى مجتمع فاضل يحقق العدالة والمساواة والحرية، بينما يسارع السياسي الصرف إلى الانخراط في أتون المرحلة متخففًا من التطلعات المثالية، ويتعامل بشكل لحظي مع الاشتراطات الضرورية لكل مرحلة، مستبعدًا الشروط التاريخية العمومية الضرورية لحركة المجتمع وتطوره.

وهذا ما أوجد مسافة كبيرة بين المثقف والسياسي، وأدى إلى صراعات عديدة. فهناك صراعات دارت في الجنوب وأخرى في الشمال، لكن الوضع الصراعي في الشمال بقي مكبوتًا ولا يتجلى بصورة واضحة المعالم، رغم عمقه وتجذره، حيث تم استقطاب الرموز القبلية وما تمثله من امتداد اجتماعي، والرموز المدنية كذلك في سياق الصراع على السلطة.

بعكس الجنوب، الذي كانت دورات العنف تتمظهر في القشرة العليا في الحزب ومن ينتمي إليه. إذن، الصدام الأساسي كان بين مستويين، أحدهما يقرأ الواقع السياسي وكيفية التعاطي معه من منظور آني، وهو مستوى نخبوي، ومستوى آخر حالم ويتطلع إلى الجديد ويشعر بالخذلان، وهو أقرب شعبيًا لأحلام الناس العاديين.

ويتبنى رؤاهم لكيفية بناء الدولة. وهؤلاء وجدوا أنفسهم مكرهين على الالتحاق بالعملية السياسية في أفق لا ينتمي إلى أشواقهم وأحلامهم وتعبيراتهم المنحازة إلى عموم البسطاء من الناس.

صحيح أن السياسة ضرورة جبرية لأي مجتمع من المجتمعات البشرية، لكنها حين تفتقر إلى الحكمة والرشد ومصالح العموم، تتحول إلى جسر فقط لتحقيق المنافع الخاصة والتملص من المشاريع المنحازة للفقراء وينتهي الغرض الأساسي منها

لقد كان الإخفاق الفادح في إدارة الشأن العام ناتجا بدرجة رئيسية عن التحاق نخب محدودة المعرفة والثقافة لتركب موجة المتغيرات الكبرى بينما بقي المثقف في كواليس المشهد يعاني من استبعاد قسري وترفسه التيارات العصابية الناشئة التي وجدت نفسها في قلب المشهد.