«حين يُهاجَم الإنسان بدلًا من الفكرة: تأملات في شخصنة الخطاب العام»

الإثنين - 29 ديسمبر 2025 - الساعة 03:32 م بتوقيت العاصمة عدن

عدن سيتي _متابعات



نشرت صحيفة «الأيام» العدنية العريقة في عدد نهاية الأسبوع المنصرم (الخميس–الجمعة، 22–26 ديسمبر 2025م) مقالًا لي بالعنوان أعلاه.

يتناول المقال مخاطر انحراف الحوار العام عن غايته الديمقراطية حين يتحول من مناقشة الأفكار والآراء إلى استهداف أصحابها.

ويناقش المقال كيف تنزلق الخلافات الفكرية والسياسية من نقاش المواقف والرؤى إلى التشكيك في النوايا، أو إلى حملات تشويه تمسّ الشخصية والسلوك والتجربة السابقة، عبر ما يُعرف بمغالطة Ad Hominem (الهجوم الشخصي)، وما يترتب عليها من إضعاف للحوار البنّاء وتقويض لاحترام الرأي والفكر.

📌 ونظرًا لصعوبة الوصول إلى الروابط داخل اليمن أحيانًا، سواء بسبب ضعف الإنترنت أو الحجب، أضع هنا النص الكامل للمقال كما نُشر في صحيفة «الأيام»، إتاحةً للقراءة والنقاش.

أتمنى قراءة مفيدة، وأرحّب – مع الشكر – بكل المداخلات والآراء المرتبطة بما ورد في المقال.

*النص الكامل للمقال كما نشر في "الأيام":

*حين يُهاجَم الإنسان بدلًا من الفكرة: تأملات في شخصنة الخطاب العام*

بقلم: السفير د. محمد قباطي

في زمن يتسارع فيه النقاش ويتراجع فيه الإصغاء، كثيرًا ما نجد أن المعارك الفكرية لا تُحسم بالحُجّة، بل تُحوَّل إلى ساحات يُستهدف فيها الأشخاص بدلًا من أفكارهم. فالخلاف حول رأي أو موقف لا يلبث أن يتحوّل إلى تشكيك في النوايا، أو حتى حملة تشويه تمسّ السمعة والسلوك والتاريخ الشخصي. كأنما لم يعد جوهر الفكرة هو محل النقاش، بل صاحبها هو المتّهَم الأول والأخير. فهل اختلطت علينا الحدود بين النقد المشروع والهجوم الشخصي؟ وهل ما يُسمّى بـ"الشخصنة" أو "الاستدعاء الشخصي في النقاش" (Ad Personam) ضرورة في بعض السياقات أم مجرّد انزلاق إلى مغالطة "Ad Hominem" التي تنسف أصول النقاش العقلاني؟ هذه المقالة تحاول تفكيك هذا الاشتباك المفاهيمي والسلوكي، عبر المرور بسياقات السياسة، والدين، والإعلام، والتربية، وصولًا إلى سؤالٍ فلسفي أعمق: هل يمكن فصل الفكرة تمامًا عن قائلها؟
فما أكثر ما نرى من نقاشاتٍ تُدار بعاطفةٍ مشتعلة، يغيب فيها المنطق وتُستبدل فيها الحجة بالصوت الأعلى، حتى يغدو الحوارُ ذاته ساحةً للتنازع لا للتفاهم.

*من الهجوم على الشخص إلى مغالطة الشخصنة*
في الحقل المنطقي، تُعرف مغالطة Ad Hominem على أنها الهجوم على الشخص بدلًا من الفكرة. وبدل أن يُفند المرء مضمون الحُجة، يلجأ إلى الطعن في نوايا المتحدث، ماضيه، أو حتى صفاته الشخصية، وكأن هذه الجوانب وحدها كافية لنقض ما قاله. أما Ad Personam فليست مغالطة بالضرورة، بل قد تكون أحيانًا استدعاءً مشروعًا للبُعد الشخصي في سياقات تستدعي مساءلة الانسجام بين القول والفعل، أو علاقة الشخص بالموقف الذي يتبناه. الفرق الجوهري إذًا هو في النية والمآل: هل الغاية تحليل السياق، أم تصفية الحساب؟
من المهم الإقرار أن Ad Personam وAd Hominem ليستا متناقضتين كليًا. ففي بعض السياقات، يبدأ النقاش بتسليط الضوء المشروع على السياق الشخصي، لكنه سرعان ما ينزلق إلى مغالطة، حين يصبح "الشخص" هو الحجة الوحيدة. ولذلك، قد تنزلق بعض المجادلات — ما لم يُتنبه لذلك — من مخاطبة الشخص أو الاستدعاء الشخصي (Ad Personam) إلى مغالطة الهجوم على الشخص (Ad Hominem)، وهي مصطلحات لاتينية ما تزال ترجماتُها العربية في طور التبلور والاستقرار.
فمغالطة "Ad Hominem" ليست مجرد انحراف لغوي، بل انتهاكٌ جوهري لقواعد الحوار الديمقراطي. فهي تحوّل النقاش من ميدان الأفكار إلى ساحة للنيل من الأشخاص، وتُضعف جودة الحجة، وتكشف غالبًا عن ضعفٍ في المنطق لا في الخصم. ومن ثمّ، فإنها تُقوّض روح الحوار القائم على الاحترام والبحث عن الحقيقة المشتركة.

*من النقد إلى الاغتيال المعنوي*
في النقاشات العامة، كثيرًا ما تُلبَس الشخصنة لباس التحليل، بينما تُمارس فعليًا كأداة اغتيال معنوي. فعندما يُساء تأويل التصريحات، وتُجتزأ المواقف، ويُقدَّم صاحب الرأي في صورة متناقضة، يكون الهدف قد انزاح من تفنيد الفكرة إلى تفريغ الشخص من المصداقية. وفي المجال السياسي تحديدًا، تُستثمر الشخصنة كوسيلة لتصفية الخصوم. فبدل مناقشة الخيارات الاقتصادية أو الاستراتيجية، يتم التركيز على فضائح مفترضة أو تفاصيل حياتية هامشية. وهكذا ينزلق النقاش من سؤال "ماذا نفعل؟" إلى جدل "من نحن؟"، فتتراجع الفكرة لحساب الصورة.
وهنا تتجلى خطورة الشخصنة حين تخلط بين مساءلة المواقف ومحاسبة النوايا، فتغدو أداةً للانتقام لا وسيلةً للفهم.
وفي الخطاب الديني، قد تنزلق بعض المنابر إلى محاسبة النوايا والنفوس بدل التركيز على توجيه العقل والضمير. وفي ميدان التربية، يتحول اللوم أحيانًا من نقدٍ للسلوك إلى وصمٍ للشخص، كما حين يُقال للطالب: "أنت كسول" بدلًا من "لم تُنجز واجبك". وبهذا تتكرس الوصمة الشخصية ويتقوّض التعلم القائم على الثقة والتشجيع.

*بين الفكرة وصاحبها*
فلسفيًا، لا يمكننا تجاهل أن الأفكار لا تنشأ في الفراغ، بل تصدر عن ذواتٍ تحمل تاريخًا وتجارب وقيمًا. لكن التحدي يكمن في إبقاء الفكرة مركزًا للنقاش، دون أن تتحوّل شخصية القائل إلى ميدان للتجريح. فالتاريخ الفكري حافل بمفكرين كانت حياتهم الخاصة مثار جدل، لكن أفكارهم غيّرت مسار الإنسانية.
إن استعادة هذا الاتزان في الخطاب لا تتطلب أدواتٍ بلاغية جديدة بقدر ما تتطلب استحضار الضمير واحترام المسافة بين الفكرة وصاحبها.
فالإصلاح الحقيقي يبدأ بإصلاح لغة النقاش ذاتها، لأن الحجة التي تجرح صاحبها تفقد قوتها الأخلاقية قبل منطقها.

*خاتمة*
إن شخصنة الخطاب ليست دائمًا مغالطة، لكنها تصبح كذلك حين تتحول إلى وسيلة للاغتيال المعنوي. والتحدي الأكبر في زمننا هذا هو استعادة فنّ الحوار دون كسر المتحاور، والنقد دون إعدام الآخر رمزيًا. فليس من شجاعة الرأي أن تُقارع الأشخاص، بل أن تُجابه الأفكار. وفي زمن الاستقطاب، فإن إعادة رسم الحدود بين مخاطبة الشخص ومهاجمته ليست تمرينًا لغويًا، بل مسؤولية ديمقراطية، وضرورة فكرية لإنقاذ الحوار من الانحدار.

متعلقات