بين الرؤية والتنفيذ: نحو تموضع في الاقتصاد الرقمي في واقع غير مكتمل»
الجمعة - 19 ديسمبر 2025 - الساعة 09:30 م بتوقيت العاصمة عدن
" عدن سيتي " متابعات
أسعد الله أوقاتكم وطيب الله جمعتكم جميعًا أيها الأعزاء،
*نشرت صحيفة الأيام العدنية الغرّاء صباح البارحة، 18 ديسمبر 2025م، مقالًا جديدًا لي بالعنوان أعلاه.*
وهو *مقال تحليلي إضافي يتناول رهان الإقليم على الانخراط في الاقتصاد الرقمي العالمي، ويأتي استكمالًا للمقال السابق الذي نشرته «الأيام» يوم الخميس الماضي بعنوان: *«رهان الاقتصاد الرقمي العالمي… وخطّ التماس مع مثلث اليمن–البحر الأحمر–أشباه الموصّلات».*
ويشكّل هذا المقال محاولةً لاستكمال ما أثاره المقال السابق من نقاشات وأسئلة مشروعة، عبر تفكيك الفارق بين استشراف الإمكانات الاستراتيجية ومتطلبات التنفيذ المرحلي الواقعي في السياق الراهن. كما يضيء المسار الذي يمكن من خلاله التفكير في تموضعٍ اقتصادي–وظيفي على الصعيد الوطني داخل منظومة الاقتصاد الرقمي الإقليمي، في بيئة انتقالية تتسم بحالة اللاحرب واللاسلم، دون القفز على الواقع أو الارتهان لانتظارٍ مفتوح، وبما يصون الطابع الوطني الجامع للنقاش والتداول.
📌 ونظرًا لصعوبة الوصول إلى الروابط داخل اليمن أحيانًا، أضع هنا النص الكامل للمقال كما نُشر في صحيفة «الأيام»، إتاحةً للقراءة والنقاش.
أتمنى للجميع قراءة مفيدة، وأرحّب مع الشكر بكل المداخلات والآراء والملاحظات ذات الصلة بما ورد في المقال.
*النص الكامل للمقال كما نشر في "الأيام"😗*
**من الرؤية إلى الزحف: نحو تموضع في الاقتصاد الرقمي في واقع غير مكتمل**
*بقلم: السفير د. محمد قباطي*
*قراءة في الانتقال من الاستشراف الاستراتيجي إلى مسار مرحلي واقعي ومتدرج*
أثار المقال السابق حول «رهان الاقتصاد الرقمي العالمي… وخطّ التماس مع مثلث اليمن–البحر الأحمر–أشباه الموصّلات» نقاشًا مشروعًا تمحور في جوهره حول سؤالٍ محوري: كيف يمكن الانتقال من توصيف الرهان إلى البحث في سُبل التحرك داخله تدريجيًا، خصوصًا في واقع غير مكتمل يتسم بحالة اللاحرب واللاسلم؟
يأتي هذا المقال بوصفه محاولة لاستكمال ذلك النقاش، عبر تفكيك الالتباس بين مستويين مختلفين من التفكير: استشراف الإمكانات الاستراتيجية من جهة، وبناء مسار تقدّمي مرحلي من جهة أخرى. فالقضية هنا ليست إعلان خيارات كبرى أو إطلاق وعود تنفيذية، بل فهم الكيفية التي تُدار بها رهانات عالمية—كالاقتصاد الرقمي—في بيئات انتقالية، بحيث يتحوّل الانتقال من الرؤية إلى الفعل إلى حركة زاحفة محسوبة، لا قفزة في الفراغ ولا انتظارًا مُعطِّلًا.
*الرؤية الاستراتيجية وحدود التنفيذ*
لا يُقصد بالحديث عن التموضع في الاقتصاد الرقمي برنامج عمل فوري أو خارطة تنفيذ جاهزة، بل قراءة استشرافية للإمكانات التي بدأت تتجمع بفعل تحولات إقليمية ودولية عميقة. فالاقتصاد الرقمي لم يعد قطاعًا تقنيًا معزولًا، بل أصبح أحد ميادين إعادة توزيع القوة والنفوذ عالميًا، حيث تتقاطع سلاسل القيمة عالية الحساسية، من أشباه الموصّلات إلى تدفقات البيانات، مع الجغرافيا والممرات البحرية.
الرؤية الاستراتيجية، في هذا السياق، لا تعني وعدًا زمنيًا أو التزامًا تنفيذيًا، بل تمثل إطارًا ذهنيًا يساعد صانعي القرار على إدراك اتجاه الريح التاريخية، وتجنّب أن تجد الكيانات نفسها تبدأ من الصفر مع كل تحوّل دولي أو تقني.
*هل اللاحرب واللاسلم عائق مطلق؟*
يفترض بعض النقاش العام أن غياب السلام الشامل يعني شللًا كاملًا في القدرة على التخطيط أو البدء بأي مسار استراتيجي. غير أن التجربة المقارنة تشير إلى أن عددًا من الدول شرع في تحولات اقتصادية ولوجستية مهمة في أوضاع انتقالية أو هشة، عبر مسارات جزئية ومحدودة، دون انتظار اكتمال شروط الدولة المستقرة.
في هذا الإطار، لا يعني واقع اللاحرب واللاسلم استحالة الحركة، لكنه يفرض نمطًا مختلفًا من التفكير والتنفيذ، يقوم على قراءة دقيقة للهوامش المتاحة، وتجنّب المشاريع التي قد تُفسَّر بوصفها استفزازًا سياسيًا أو أمنيًا، والتركيز بدلًا من ذلك على وظائف خدمية وداعمة قابلة للاستمرار.
*من القفزة إلى الزحف الاستراتيجي*
يبرز هنا الفرق الجوهري بين القفز والزحف في إدارة التحولات الكبرى. فالقفزة الشعاراتية تعلن أهدافًا أكبر من قدرة الواقع على الاستيعاب، وتفترض أن الإرادة وحدها كافية لتجاوز القيود البنيوية والمؤسسية. أما الزحف الاستراتيجي، فيقوم على حجز موقع مبكر، ولو محدود، ثم البناء عليه تدريجيًا مع تحسّن البيئة.
الزحف، بهذا المعنى، لا يدّعي أدوارًا قيادية كبرى منذ البداية، بل يسعى إلى شغل مواقع دعم ووظائف مساندة داخل المنظومة الاقتصادية الأوسع، بما يسمح بتراكم الخبرة، وبناء الثقة، واستقطاب الشراكات دون رفع سقف التوقعات.
*ما الذي يمكن البدء به واقعيًا؟*
الواقعية تقتضي التركيز على مسارات منخفضة الكلفة السياسية وعالية العائد الاستراتيجي. ويأتي في مقدمتها العمل المناطقي في مناطق آمنة نسبيًا، والبدء بمشاريع خدمية غير مستفزة للصراع، مثل تشغيل الموانئ، والخدمات اللوجستية، وأعمال الصيانة، والتدريب التقني، والمناطق الحرة ذات الطابع الخدمي.
كما يتطلب هذا المسار اعتماد مفهوم الأمن الفني والتشغيلي لحماية المنشآت والمرافق، بعيدًا عن عسكرة الفكرة أو تسييسها، وبناء شراكات مرنة بصيغ BOT وPPP، دون تحميل الكيانات القائمة أعباء مباشرة أو التزامات تفوق قدرتها الحالية.
ويظل نجاح هذا المسار الزاحف مرهونًا، إلى جانب البنية التحتية والشراكات، بإعادة توجيه واقعية لمنظومة التعليم، تبدأ بتطوير التعليم الفني والتقني، وتحديث المسارات الجامعية المتخصصة المرتبطة بالاتصالات، واللوجستيات الذكية، وإدارة الموانئ، والأمن السيبراني، بما يضمن توافر رأس مال بشري مؤهَّل يواكب التحول خطوة بخطوة.
*الكابلات البحرية كنموذج تطبيقي*
يمثل ملف الكابلات البحرية مثالًا عمليًا على الفرق بين الرؤية والتنفيذ المرحلي. فالسؤال ليس ما إذا كان بالإمكان التحول فورًا إلى مركز إقليمي لإدارة هذه الكابلات، بل ما إذا كان يمكن البدء بدور أقل سقفًا وأكثر واقعية، كمركز دعم وصيانة تدريجي.
ويتطلب هذا الدور إطارًا تنظيميًا واضحًا، وتأمين نقاط إنزال، وتوفير مرافق لاستقبال سفن الكابلات، وبناء كوادر فنية محلية، إضافة إلى شراكات مع مشغلي الكابلات الدوليين. وهي خطوات قابلة للشروع التدريجي دون انتظار تسوية شاملة أو استقرار كامل.
*الخلاصة*
جوهر هذا الطرح ليس التقليل من صعوبة الواقع، ولا التهوين من تعقيداته، بل رفض تحويلها إلى مبرر دائم للجمود. فالتموضع في الاقتصاد الرقمي لا يُبنى بالقفز، ولا ينتظر اكتمال شروط مثالية قد لا تأتي قريبًا.
ما يُطرح هنا هو مسار ثالث: رؤية واضحة تستشرف الإمكانات، وتنفيذ مرحلي زاحف يحجز موقعًا مبكرًا، وشراكات محسوبة تتوسع مع تحسّن الظروف. وبهذا المعنى، لا يكون التفكير في الاقتصاد الرقمي ترفًا فكريًا، بل محاولة واقعية لضمان ألا يبدأ هذا الفضاء من الصفر مع كل تحوّل إقليمي أو دولي.
المصدر / صحيفة الايام العدنية