بين الفساد والشفافية: أي مستقبل نرسمه لصحتنا؟

الجمعة - 22 أغسطس 2025 - الساعة 08:27 ص بتوقيت العاصمة عدن

تقرير "عدن سيتي" د. رائد محسن علي الشيخ



في بلد أنهكته الحرب وأثقل كاهله الفقر لم يعد المرض مجرد مواجهة بيولوجية مع ميكروب أو ورم بل أصبح امتحانا" قاسيا" لإنسانية الدولة ومصداقية مؤسساتها.
المريض يقف اليوم أمام مشهد متناقض:
كفاءات طبية متميزة وطاقات بشرية قادرة على صناعة الفارق لكن في المقابل منظومة صحية مثقلة بالتآكل والفساد
تحول العلاج من حق إلى سلعة يساوم عليها السوق.

خلال الأيام الماضية تابعنا قرارات بتخفيض بعض الرسوم والخدمات الطبية بنسبة 35%. قرارات تحمل نوايا حسنة لكنها في جوهرها أقرب إلى لاصق جروح يوضع على نزيف مفتوح. فالمشكلة أعمق من مجرد تخفيض مؤقت هنا أو هناك. إن الحل الحقيقي يكمن في إعلان تسعيرة وطنية موحدة وعادلة تشهر بوضوح في جميع المستشفيات والعيادات والمستوصفات بحيث يعامل المواطن بعدالة وشفافية بعيدا" عن فوضى الأرقام ومزاج السوق.

اليوم أسعار الفحوصات والأشعة والمعاينات والعمليات الجراحية تختلف بشكل صارخ من مستشفى لآخر ومن محافظة لأخرى في ظل غياب مرجعية واضحة.
وكان الأجدر بالوزارة ومكاتب الصحة أن تبدأ بخطوة إصلاحية جريئة: تسعيرة رسمية شاملة تلزم بها جميع المؤسسات الصحية ليصبح المريض شريكا" في العدالة لا ضحية للفوضى.

لكن المشكلة لا تتوقف عند أبواب المستشفيات بل تمتد إلى رفوف الصيدليات.

الأدوية المهربة والتلاعب بالاسعار:
دواء بلا تسعيرة مختومة من قبل الهيئه ولا تاريخ مضمون وأحيانا" دون فعالية تذكر.
لقد أصبح المريض يعيش مأساة مضاعفة: ليس في مرضه فقط بل في الدواء الذي يتناوله.
لا ننسى قصة شاب في الثلاثين من عمره أصيب بجلطة دماغية مفاجئة رغم أنه كان يتناول علاجه بانتظام من السوق المحلية وعندما سافر أهله به إلى الخارج اكتشف الأطباء أن العلاج الذي كان يثق به لم يكن فعالا" أصلا" بل كان أقرب إلى قرص بلا حياة.
امرأة مصابة بارتفاع الضغط تناولت دواءها بانتظام دون تحسن لكنها حين جلبت نفس الدواء لكن غير مهرب تغيرت حالتها تماما"لم يكن الفارق في الوصفة بل في جودة ما بداخل العلبة.

إنها ليست حوادث فردية بل شواهد يومية على أثر الأدوية المهربة والمغشوشة التي باتت تشارك في صنع الأمراض بدلا" من علاجها. وما نشهده اليوم من ارتفاع غير مسبوق في حالات الجلطات القلبية والدماغية لدى الشباب قد لا ينفصل عن هذه الفوضى الدوائية التي تترك بلا رقابة ولا حساب.
إن الدواء ليس سلعة تجارية ومن غير المقبول أن يبقى المواطن تحت رحمة الصدفة: هل وقع في يد دواء فعال أم دواء مغشوش؟ هل يدفع سعرا" عادلا" أم يستنزف في لعبة السوق السوداء؟

إن الإصلاح الصحي يحتاج إلى رؤية واضحة وشجاعة يمكن تلخيصها في ثلاث خطوات محورية:
1: إشهار تسعيرة وطنية موحدة للعمليات والخدمات والأدوية تعلن بوضوح ويلزم الجميع بتطبيقها.
2: إنشاء هيئة رقابية فاعلة ومستقلة لمكافحة التهريب وضمان جودة الدواء.
3: إعادة الاعتبار للمريض بوصفه الهدف الأسمى لأي نظام صحي لا مجرد رقم في دفاتر أو وسيلة ربح.

نحن اليوم بحاجة إلى قيادة صحية صادقة قيادة تنظر إلى القطاع الصحي مشروع وطني جامع.
إن بناء منظومة صحية عادلة وشفافة ليس ترفا" بل واجب وطني وأكبر إنجاز يمكن أن نحققه ليس فقط في إنشاء مستشفيات بل في بناء ثقة جديدة بين المواطن والدولة بين المريض والطبيب وبين المجتمع وقادته نحو الشفاء.
إن صحة المواطن ليست ملفا" إداريا"عابرا" بل قضية وطنية كبرى تحدد مستقبل الدولة ذاته.


د. رائد محسن علي الشيخ
أخصائي أمراض الكلى - مركز الغسيل الكلوي م/الضالع

متعلقات