المدينة التي لا تُبتلع: عدن في عيون أبنائها
الأربعاء - 20 أغسطس 2025 - الساعة 08:33 م بتوقيت العاصمة عدن
تقرير "عدن سيتي" ذياب الحسيني
منذ آلاف السنين، كانت عدن أكثر من مدينة على خارطة الوطن؛ كانت بوابة الشرق إلى الغرب، ومرفأً تتقاطع فيه الأرواح كما تتقاطع فيه السفن. في صخب الأمواج وعبر رائحة الملح القادمة من خليجها، تشكلت هوية فريدة لناسٍ سكنوا الأرض قبل أن تُرسم لها حدود سياسية، هوية متجذرة في تاريخ لا يندثر، وفي ذاكرة جماعية حملها العدنيون جيلًا بعد جيل. هؤلاء السكان الأصليون ليسوا محض بشر سكنوا الأرض، بل نواة المجتمع العدني، لبنته الأولى التي قامت عليها عمارة المدينة الثقافية.
هم أبناء الأرض والساحل، رجال ونساء من قبائل لحج وأبين، وتجار من سلالة حضرمية، وأسر عدنية قديمة استوطنت الأحياء الأولى منذ العهد السبئي. تراكمت فيهم قيم البحر والانفتاح والكرم، وصقلهم الامتداد الحضاري مع الهند وأفريقيا وفارس. لم يكن انفتاحهم انصهارًا، بل توليفة حضارية متماسكة، حافظت على اللب العدني داخل عواصف التغيير.
منذ أن تحولت عدن إلى ميناء عالمي، دخلها الغريب والمهاجر، المستوطن والعابر، لكن ظلت للأصل جذوره، باقية في تفاصيل اللهجة، وفي أسماء الحارات، وفي نغمات الموسيقى، وفي الطقوس الاجتماعية البسيطة كطبق “الفتة العدنية” أو رائحة البخور في البيوت الشعبية. لم تكن عدن يومًا مدينة تُبتلع هويتها، بل كانت دومًا التي تُعيد تشكيل الآخرين على طريقتها، دون أن تخون إرثها.
العدني لا تُحكمه القبيلة، بل يحكمه العقل المدني وروح الجماعة. المرأة فيه ليست ظلًا، بل صوتًا فاعلًا في التعليم، في سوق العمل، في ساحات الحياة اليومية. الفنون في عدن ليست ترفًا، بل ضرورة، وسيلة للتعبير وللتحرر. من مسارح الخمسينيات إلى أصوات الفنانين الأوائل، من الأغنية العدنية التي سكنت الخليج إلى الريشة التي رسمت جداريات البسطاء، ظل الفن طريق العدني للحديث عن نفسه، وللتذكير بأنه موجود مهما حاول التغيير طمسه.
اليوم، وبعد عقود من التحولات السياسية، من الهجرات واللجوء والنزوح، تبدو الهوية العدنية كعود الطيب؛ كلما اشتدت النار عليه زادت رائحته. هناك محاولات لمحو الفروقات، لتذويب المدينة في سياقات لا تشبهها، لكن السكان الأصليين يقاومون عبر التعليم، والإعلام، والمبادرات الثقافية، وحتى الحنين. هم لا يرفعون السلاح، بل يرفعون الصوت، يكتبون الأغنية، ينقشون الذاكرة، يؤمنون أن الدفاع عن الهوية لا يكون بالصدام، بل بالبقاء.
في النهاية، لا يُمكن الحديث عن عدن دون الحديث عن ساكنيها الأصليين. هم المرآة التي انعكست فيها حضارات البحر، وهم الوتد الذي ظل راسخًا وسط كل العواصف. قد تغير الوجوه واللغات واللافتات، لكن ما إن تمشي في أزقتها، أو تستمع لنقاش في مقهى شعبي، أو تمرّ بمئذنة قديمة وسط الضجيج الحديث، تدرك أن عدن لم تتغير… بل تنتظر من يتعرف على ملامحها الأصيلة.