حوار حول مستقبل اليسار!
الأحد - 15 يونيو 2025 - الساعة 01:32 ص بتوقيت العاصمة عدن
الوطن العربي " عدن سيتي ". سمير مرقص : متابعات
حوار حول مستقبل اليسار!
في مايو/أيار 2024، نظّم معهد باريس للاقتصاد حوارًا بين الاقتصادي الفرنسي الأشهر في العقد الأخير "توماس بيكيتي" (54 عامًا)، وأستاذ الفلسفة السياسية الأميركي "مايكل ساندِل" (72 عامًا). تمّ جمع حصيلة الحوار في كتابٍ صدر مَطلع هذا العام تحت عنوان "المساواة: ماذا تعني، ولماذا هي قضية خطيرة تحتاج إلى نقاش؟".
.
تناول العالِمان في حوارهما كيفية تجاوز حالة اللّامساواة التاريخيّة غير المسبوقة التي يعاني منها مواطنو الكوكب في وقتنا الراهن والحيلولة دون تفاقمها في ظلّ الشراسة المطّردة جرّاء صدام الإمبرياليات: القديمة الغربية والصاعدة الشرقية؛ في عالم اليوم. ينطلق هذا الصدام بغرض احتكار ثروات ومقدّرات الكوكب، غير آبهٍ بالفجوة دائمة الاتساع بين القلّة الثروية والأغلبية من مواطني الكوكب التي تقف خارج دائرة الثروة. إذ تشير الأرقام إلى أنّ أغنى 1% من البشر يستحوذون على ما يقرب من ثلثَي جميع الثروات الجديدة المُراكَمة - أي حوالى ضعف الأموال التي يمتلكها أفقر 99% من سكان العالم.
إنّها الظاهرة التي تصفها الأدبيّات بوضعية "انفجار اللّامساواة" (Inequality Explosion)؛ التي دفعت العالم لأن يعاني حالةً انقساميةً حادةً بين عالمَيْن كما يلي: عالم شديد القسوة لغالبية البشر: يملك. وعالم آخر رائع لقلّةٍ من البشر: لا يملك.
لا سبيل لبلوغ المساواة ما لم يتمّ التراجع عن النظام الاقتصادي السائد
توافَق المتحاوران على أنّ عصر الليبيرالية الجديدة قام، ولا يزال، على ثلاثة أعمدة: الأمولة (من مال)، والعوْلمة، وطبقة أصحاب الجدارة والمكانة (بالحري أصحاب الثروة)؛ حيث قام معمار النظام الاقتصادي العالمي على الأعمدة الثلاثة وتبعته الأنظمة الوطنية في ذلك. ما أنتج أزمات مالية وكوارث بيئية ومناخية وإشكاليات اجتماعية محتقنة / مستدامة منذ تسعينيّات القرن الماضي وحتى يومنا هذا وإلى أَجَلٍ غير معلوم. ولا يمكن تجاوز هذا العصر الذي يحكمنا منذ مطلع الثمانينيّات ما لم تتمّ مواجهة حقيقية وحاسمة مع منطقه وممارساته المالية والعولميّة التي تصبّ بالأساس لصالح ذوي المكانة والثروة. ما يستلزم مراجعة الكثير من الخيارات الاقتصادية التي تمّ اتخاذها من قبل دول المركز - خلال العقود الأربعة الأخيرة - فيما يتعلق ببنية الاقتصاد / المال العالمية الرّاهنة التي وصفها بيكيتي بـ"الاستعمارية الجديدة، والليبيرالية التجارية" التي أثّرت في الدول في تبنيها لميزانيات تقشّفية، وتراجع ما يُعرف بالضرائب التقدّمية العادلة ما فاقم اللّامساواة. ولا سبيل لبلوغ المساواة ما لم يتمّ التراجع عن النظام الاقتصادي السائد الذي يقوم على تدويرٍ حرّ لرأس المال والسلع والخدمات وانفلات الأسواق من دون ضوابط تُراعي الأبعاد الاجتماعية والبيئية والمناخية والسياسية لعموم مواطني الكوكب.
في هذا السّياق، تطرّق الحوار بين العالِمَيْن الاقتصادي والسياسي، إلى مسؤولية اليسار المعاصِر في رأب صدع البنى الاجتماعية المعاصِرة من جهة، وتضييق الفجوة بين طبقة المستحوذين على غالبية الثروة-القلّة وبين طبقة المستبعدين-الأغلبية من الشراكة في الثروات العامّة للبلدان من جهةٍ أخرى. وذلك من أجل تحقيق المساواة والعدالة والمواطنة التامّة. ومن ثم انطلق العالِمان من سؤالٍ محوريّ هو: ما مستقبل اليسار حول العالم؟ وفي هذا المقام، أشار "ساندِل" بكلّ وضوح إلى أنّه آن أوان "كسر احتكار اليمين" وهيمنة رؤاه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على سياسات الدول حيال مجتمعاتها ومواطنيها.
الاقتصاد الزائف يُبقي الثري ثريًا والفقير فقيرًا
وبالأخير، يتّفق العالمان على ضرورة بلورة رؤية يسارية تُعنى - في وقتٍ واحد - بثلاثية: المساواة والعدالة والمواطَنة الكريمة؛ اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، وذلك فيما يتعلّق بتوزيع الدخل والثروة اقتصاديًا، وفتح ثغرات في السلطة المغلقة من خلال توسيع دائرة المشاركة السياسية للأغلبية سياسيًا، وأخيرًا احترام حقوق المواطَنة لجميع المواطنين، على اختلافهم، بما يحقق الكرامة الإنسانية والتقدير والاعتراف وذلك على المستوى المجتمعي.
ومن أجل أن يحقّق اليسار رؤيته / مهمّته لا بدّ من فرض مراجعةٍ كاملةٍ لما آلت إليه أوضاع العالم بفعل تطبيق النيوليبيرالية الجديدة على مدى عقودٍ من: لامساواة وتغييب للعدالة. ما يستلزم وضع "أجندة" عمل يمكن استخلاص أهمّ بنودها في الآتي:
أولًا: رسم خريطة للخصوم من قوى اجتماعية وكيانات مالية؛ الذين دأبوا على تعميق اللّامساواة وتعمّد تغييب العدالة.
ثانيًا: محاربة "الأوليغارشية" أو الطبقة الحاكمة التي تُدير النظام الاقتصاد العالمي بتجلّياته الرقمية/التقنية والصناعية/الزراعية. ومن ثمّ إنهاء الاقتصاد الزائف الذي يُبقي الثري ثريًا والفقير فقيرًا. إذ إنّ الاقتصاد الحقيقي يُخرج الفقير من فقره.
لا يوجد شيء اقتصادي بحت أو سياسي أو اجتماعي محض
ثالثًا: تقديم رؤيةٍ لتقدّم المجتمع تكاملية الأبعاد. وفي هذا المقام، يُشير المتحاوران إلى أنّهما مثل "جان جاك روسو" عليهما عند التفكير في المساواة والعدالة والمواطَنة، فإن ذلك يدفعنا ــ وبالطبع يدفع كل من سيعمل على تجديد رؤية / مهمّة اليسار ــ "على التجوّل عبر الاقتصاد والفلسفة والنظرية السياسيّة...". ذلك لأنّه لا حلّ للمسألة المجتمعيّة الشاملة إلّا باعتبار المسائل الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، مسألة واحدة. إذ إنه "لا يوجد شيء اقتصادي بحت" أو سياسي أو اجتماعي محض.
وبعد، نلفت النّظر إلى أنّ الحوار السّابق، ليس حوارًا استثنائيًا بين عالِمَيْن، إذ يأتي ضمن فورةٍ جديدةٍ تحاول أن تؤسّس ليسار ما بعد جديد، قاعدته الاجتماعية الحركية المجتمعية ذات مروحة كبيرة من القوى والطبقات والفئات قوامها أجيال شابة جديدة غاضبة من إخفاق نخبٍ، ومؤسّسات / أحزاب / كيانات مالية وسياسية واجتماعية، وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية في الوفاء بوعودها (راجع مقالَيْنا: "أوروبا وزمن المواطنية الجديدة" و "إنها حركة مواطنية قاعدية وليست شعبوية"). ويستوي في ذلك كلّ من دول/مجتمعات المركز في الشمال ودول الجنوب العالمي. ومن ثمّ علينا أن ننخرط في هكذا حوارات بما يكسر الجمود ويحقق قدرًا من المساواة والعدالة والمواطَنة الكريمة لمواطنينا.
"عروبة 22"