ٱراء واتجاهات


جمهورية "ما تَبَقّى"!

الإثنين - 08 ديسمبر 2025 - الساعة 09:16 م

الكاتب: صالح بامقيشم - ارشيف الكاتب





أدّى التقسيم الاستعماري لبلاد الشام في أعقاب انهيار الدولة العثمانية إلى بزوغ كيانات جديدة رُسِمت خرائطها بحيث تتناغم مع رؤية الغرب الاستعماري ومصالحه.
نشأت دولة لبنان الكبير، وتمّ منح شرق الأردن لأمير هاشمي، أمّا فلسطين فكان وعد بلفور يقضي بتسليمها للكيان الصهيوني لإقامة دولته على أرضها السليبة. أمّا ما تَبَقّى من الجغرافيا الشامية فقد أُقيمت عليه الدولة السورية الحديثة بكل تنويعاتها وتناقضاتها الصعبة، سواء على الصعيد الطائفي أو العرقي، وكلاهما تمّت إذابته وصهره بقسوة على وقع المشروع القومي العروبي.

اليوم نرى سوريا الموجوعة تُعيد سيناريو "ما تَبَقّى" لتكون دولة تتكور على نفسها في ظل غياب الأفق والانفتاح الثقافي والرؤية التي تستوعب كلّ أشكال التنوع والاختلاف، لتحتضن الجميع في إطار دولة واحدة تتّسع لهم وتؤمن بحق كل طائفة وعرقية في الوجود.

ها هو الكيان الإسرائيلي يقضم أجزاء من جغرافيا الدولة السورية، ويتجرّأ بشكل بالغ الرعونة على تهديد سيادتها. وفي الجانب الآخر يمضي الأكراد شمالًا في مغامرات أشبه بالانفصالية، ويفعل الدروز الفعل ذاته، لتكون دولة السنّة/سوريا هي "ما تَبَقّى"، وكأنّ التاريخ يسخر من الجميع.

أزمة الهوية التي يعاني منها المجتمع السوري يبدأ انفجارها من رغبة الطرف المنتصر في الحرب الأهلية الطاحنة في تكريس فكرة "العربية السنية" كهوية جامعة لسوريا. وقد يتقبّل البعض العروبة كرابطة ثقافية وحضارية، لكنّ الأطراف التي تمتلك الفاعل الطائفي لن ترضى بالرؤى التي تنبثق من جماعات الإسلام السياسي وفي طليعتها وصف سوريا بـ"السنية".

ربما تكتسب الطوائف المتمايزة عناصر وجودها من كونها مكونات محددة جغرافيًا وهوياتيًا، ومحصورة في مربعات تنطلق منها لإثبات فرادتها وتمايزها، بينما يتوزع السنّة في أغلب مناطق سوريا، ولا تلتقي مصالحهم غالبًا، وليس لهم "مظلومية تاريخية" تجعل تماسكهم يقوم على متبنّيات ملموسة.

أصاب الحوار الوطني السوري كثيرين بخيبة الأمل، وبدأ واضحًا أن نظام المرحلة الانتقالية يريد تعددية دينية وطائفية، لكنه لا يتقبّل التعددية السياسية، وهذه أهم عقبة غير مرئية حتى الآن. فبدون دولة ديمقراطية تعددية تتيح التعبير عن مصالح كل ألوان الطيف السوري، ستدفع سوريا أثمانًا باهظة، ربما أشدّ مما دفعته أثناء خوض غمار الثورة الدامية التي أفضت إلى "ما تَبَقّى" من سكان وأرض وسيادة.