ٱراء واتجاهات


حين يصبح الجنوب مشروعاً يتجاوز الجغرافيا

الجمعة - 10 أكتوبر 2025 - الساعة 01:21 ص

الكاتب: وضاح قحطان الحريري - ارشيف الكاتب






تمر علينا بعد أيام الذكرى الواحدة والستون لثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة، تلك الثورة التي أشعلت فتيل الحرية، وأسقطت الاستعمار، وكتبت بالدم والكرامة ميلاد الدولة الجنوبية الأولى. غير أن هذه الذكرى تأتي اليوم في ظرفٍ صعب، ونحن نعيش وضعًا اقتصاديًا متدهورًا، وشعبًا مرهقًا يلهث خلف راتبٍ لا يسدّ الجوع ولا يحفظ الكرامة. المواطن الجنوبي لم يعد يحتاج إلى من يشرح له الواقع، فهو يراه ويعيشه يوميًا، في طوابير المرتبات، وفي انقطاع الكهرباء، وفي غلاء الخبز والماء. ومع ذلك، فإن الحلم لا يموت، والجنوب ما زال يبحث عن استقلاله الثاني، بعد ثلاثين عامًا من ضياع الدولة تحت شعارات الوحدة، وما صاحبها من ظلم وإقصاء وتهميش، حتى باتت الوحدة في نظر الناس قيدًا لا مشروعًا.

وفي هذا السياق المليء بالتحديات، جاءت تصريحات الرئيس عيدروس الزبيدي الأخيرة لترسم مسارًا سياسيًا جديدًا حين أعلن عن ترحيبه بانضمام محافظتي مأرب وتعز ضمن مشروع الدولة الجنوبية القادمة. هذه التصريحات أثارت نقاشًا واسعًا وجدلاً عميقًا في الشارع السياسي والإعلامي، لأنها كسرت المألوف في تعريف “الجنوب العربي” كما عرفه الجنوبيون تاريخيًا. البعض قرأها كموقف استراتيجي ذكي يحمل أبعادًا سياسية تتجاوز الجغرافيا التقليدية، في محاولة لبناء توازن إقليمي جديد يضمن أمن الجنوب واستقراره، ويعيد رسم الحدود وفق معادلة المصالح والتحالفات الواقعية لا الشعارات القديمة. بينما رآها آخرون خطوة رمزية أو حتى مغامرة سياسية قد تفتح أبواباً للتأويل وسوء الفهم، خاصة في ظل الواقع الهش والتوازنات الحساسة بين القوى اليمنية المتعددة.

لكن بين المؤيدين والمعارضين، لا يمكن تجاهل حقيقة أن الزبيدي أراد إرسال رسالة مزدوجة: الأولى للخارج، بأن مشروع الجنوب ليس مشروعًا انفصاليًا منغلقًا، بل كيان سياسي منفتح وقابل للشراكة مع من يشارك الجنوب الرؤية والهدف، والثانية للداخل الجنوبي، بأن القضية الجنوبية لا تتوقف عند حدود الجغرافيا بل عند مفهوم “الانتماء والمصير”. هنا يتجلى البعد السياسي العميق في التصريحات: فالزبيدي يحاول أن يعيد تعريف الجنوب لا كموقع على الخريطة، بل كهوية سياسية جامعة لكل من يؤمن بقضية التحرر من منظومة الفساد والهيمنة التي أنتجتها وحدة 1990 وما تبعها من صراعات.

سياسيًا، يمكن النظر إلى هذا التوجه كخطوة استباقية في معركة إعادة التوازن داخل المشهد اليمني المعقد. فمأرب وتعز ليستا مجرد محافظتين شماليتين، بل تمثلان عمقًا استراتيجيًا مهمًا من حيث الموارد والبشر والرمزية الثورية. إشراكهما في الخطاب الجنوبي يعني فتح أفق جديد لتحالفات مستقبلية قائمة على الشراكة لا الصراع. وربما أراد الزبيدي أن يقول بصراحة للعالم والإقليم: الجنوب العربي القادم ليس جدارًا عازلًا بل جسرًا يمتد نحو من يمد يده بصدق نحو الاستقرار والاحترام المتبادل. هذه الرؤية قد تعني عمليًا بناء دولة جنوبية ذات بعد إقليمي متكامل، تتجاوز عقدة التقسيم التقليدي وتتبنى مبدأ الشراكة وفق المصالح المشتركة لا التبعية.

ومع ذلك، فإن هذا الطرح يظل محفوفًا بالمخاطر. إذ يحتاج إلى وعي سياسي عميق يراعي حساسية الشارع الجنوبي الذي ناضل طويلاً من أجل استعادة دولته بحدودها التاريخية. فالتوسّع في المفهوم الجنوبي دون بناء مؤسسات قوية قد يخلق التباسًا في الهوية ويمنح الخصوم فرصة لتشويه المشروع برمّته. لذلك، يبقى التحدي الحقيقي أمام الزبيدي والقيادة الجنوبية هو تحويل هذه الرؤية إلى سياسة واقعية تحفظ الهوية ولا تفقدها، وتبني الوحدة الجنوبية على أسس جديدة قائمة على العدالة والندية لا على التوسع الرمزي.

تمر علينا الذكرى الأكتوبرية المجيدة ونحن في أمسّ الحاجة إلى استعادة روح الثورة الأولى، لا بالشعارات، بل بالفعل السياسي الصادق. فالثوار الذين حرروا الجنوب عام 1963 لم يكن لديهم سوى الإيمان والإرادة، أما اليوم فقد أصبحت لدينا تجربة طويلة وواقع مُرّ يفرض علينا أن نتعلم كيف نبني دولة لا مجرد سلطة. واليوم، بعد كل ما عاشه الجنوب من خذلان ومعاناة، يظل السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح على كل القيادات، وعلى رأسهم الرئيس الزبيدي:
هل سنظل ننتظر استقلالًا ثانياً لا يأتي، أم أننا سنصنعه بأيدينا كما صنع آباؤنا استقلالهم الأول؟